كانت مكاسب القيادة الجزائرية من استثمارها في دعم إرهاب عصابات البوليساريو في عدوانها على المغرب منتصف سبعينيات القرن الماضي، مكاسب هائلة على المستويات الدبلوماسية والاستراتيجية. فقد استطاعت إيهام جزء كبير من حركات التحرر الوطني في تلك الفترة بأنها من خلال دعمها لجبهة البوليساريو الانفصالية، إنما تعيد استئناف مسيرة جبهة التحرير الجزائرية الظافرة ضد الاستعمار.
وقد وقع عدد من القوى الشعبية اليسارية في مختلف أنحاء العالم تحت تأثير الدعاية الجزائرية التي عملت على تسويق هذا التفسير لموقفها المعادي لاستكمال المغرب لوحدته الترابية والتعامل مع المسيرة الخضراء واستعادة أقاليم الجنوب الصحراوي، كما لو كان عملا استعماريا وغزوا أراضي الغير.
وكان لطبيعة الاستقطاب الدولي في تلك الحقبة بين المعسكرين الغربي والشرقي دور داعم لأطروحات الجزائر التي زعمت أنها تجسد قيم التقدم والتحرر في منطقة شمال إفريقيا وأن علاقات المغرب مع الدول الغربية هو الدليل الواضح على أنه يهدف من خلال السيطرة على الصحراء إلى تمكين الغرب من توسيع نفوذه والتوسع في إفريقيا قاطبة على حساب المعسكر الشرقي. غير أن هذا الوهم الكبير الذي تم التسويق له بقوة الدبلوماسية والمال وشراء المواقف في مختلف القارات وخاصة في إفريقيا حيث تم تسجيل انتصارات لصالح الجزائر أدت الى انسحاب المغرب من منظمة الوحدة الافريقية عام 1984.
إن هذا الوهم لا يمكن أن يكتب له الدوام وخاصة مع حدوث تغيرات جوهرية على مستوى الاستقطابات الدولية، بعد تفكك المعسكر الشرقي وبروز مؤشرات جديدة على تبلور نمط جديد من العلاقات الدولية، على غير شاكلة النمط القديم وحيث لم يعد للأبعاد الأيديولوجية دور الصدارة في تحديد المواقف على المستوى الشكلي في تلك الحقبة، وتبين أن أساس المواقف والتوجهات والفعلية هو مصالح الدول السياسية والاستراتيجية الحقيقية وليس تهويمات التصورات الأيديولوجية غير ذات اَي مضمون حقيقي.
وليس هناك أي مجال للشك بأن الهجوم السياسي الدبلوماسي العقلاني والمنفتح على القارة الإفريقية، كما هي ودون مسبقات إيديولوجية أو تمييزية في عهد الملك محمد السادس قد بين تهافت مزاعم القيادة الجزائرية حول استمرار ثورتها من خلال دعم حق الشعوب في تقرير مصيرها، لأن الحقيقة التي لا تقبل الدحض هي أن موقف الجزائر من حق الشعب المغربي في تقرير مصيره واستكمال وحدته الترابية هو التتويج الفعلي والنهائي لتنكر القيادة الجزائرية لكل قيم مناهضة الاستعمار وسياساته الهيمنة.
وهذا ما جسده تماما تبنيها لأطروحة الاستعمار الإسباني القائمة على أن الصحراء هي أرض دون شعب ودون مالك عندما تم احتلالها في نهاية القرن التاسع عشر. والواقع التاريخي الذي لا يرتفع، هو أن المغرب هو صاحب السيادة على تلك المنطقة ولَم يسبق له أن تنكر لها رغم خضوعه للاستعمارين الفرنسي والإسباني خلال عقود طويلة.
لقد سبق لي ان أشرت في مقالات عديدة، في المغرب وخارج المغرب، أن مرحلة العد العكسي لتحول جبهة البوليساريو من مكتسب صاف للاستراتيجية الجزائرية إلى خسارات متوالية قد انطلقت منذ مدة طويلة، لاسيما بعد نزول الملك محمد السادس بكل ثقله السياسي والرمزي إلى ساحات الفعل في إفريقيا ضمن استراتيجية واضحة المعالم، هدفها خدمة إفريقيا من خلال إدماج مختلف قواها وطاقاتها في عمليات شراكة ندية حقيقية تهتم بمصالح الشعوب والدول الحقيقية وتعمل على كشف زيف شعارات، خَيل للبعض في فترة من الفترات أن غايتها الرفع من مستوى النمو السياسي والديمقراطي لإفريقيا، في حين أنها وليدة استراتيجية هيمنية لا تعير أدنى اهتمام لمصالح الشعوب.
وَمِمَّا لا شك فيه أن التطورات التي أدت إلى استعادة المغرب لموقعه الوازن في الاتحاد الأفريقي وتراجع نفوذ خصومه في القارة السمراء مؤشر حقيقي على أن فترة تحول البوليساريو إلى خسارة صافية بالنسبة للاستراتيجية الرسمية للجزائر قد انطلقت وبزخم قوي.
وما تتالي سحب الاعترافات من الجمهورية الوهمية والانتكاسات التي عرفتها الدبلوماسية الجزائرية في عدد من المحافل الإقليمية والدولية، الأمر الذي اضطر معه ممثلوها إلى الكشف عن وجوههم والانخراط في معارك البوليساريو الخاسرة إلى درجة استعمال القوة العضلية، إلا الدليل القاطع أن مرحلة وهم الهيمنة الجزائرية بدعوى الاستحقاق الثوري التاريخي قد ولت إلى غير رجعة.
ولأن هذه الأقنعة قد سقطت، ولأن المجتمع الدولي والأمم المتحدة أكدت ضرورة العمل على إيجاد حل سياسي للنزاع الإقليمي المفتعل حول الصحراء المغربية، ضدا على رغبة القيادة الجزائرية، التي يبدو أنها لم تقطع بعد مع وهم الانفصال، فإن هذا الوهم مآله التلاشي المادي والمعنوي أمام إصرار الشعب المغربي بمختلف مكوناته على المزاوجة بين تفعيل خطط التنمية في إطار الجهوية المتقدمة والاستعداد الدائم لتحمل مسؤولية الدفاع عن حقه غير القابل للتصرف في حماية سيادته على أراضيه.