ترك محمد بن عيسى وزير خارجية المغرب الأسبق، وأمين عام مؤسسة منتدى أصيلة، وهو يختتم مساء الاثنين 24 من شهر يوليو، الدورة التاسعة والثلاثين لموسم أصيلة الثقافي الدولي التي احتضنتها المدينة المستكينة إلى شاطئ الأطلسي ؛ ترك الباب مفتوحا أمام احتمالات استمرار الموسم بالصيغة الأصل التي انطلق بها منذ قرابة أربعة عقود والتي يمكن القول إنها حققت الأهداف المتوخاة منها تجلت الصيغة في المراهنة على الجانب الثقافي والإكثار منه وخاصة في المواسم الأولى ،خلافا لأغلب مهرجانات الصيف في المغرب التي تستقدم نجوم الأغنية والفكاهة وألوان الترفيه الجماهيري.
ويقتضي الأنصاف القول إن راعي موسم أصيلة الثقافي، بذل الكثير من الجهد والمثابرة حتى لا أقول التضحية براحته وعطله، من أجل الحفاظ على وهج الموسم الذي استضاف العديد من كبار الشخصيات والقيادات الدولية من العيار الثقيل، نذكر منهم على سبيل المثال أمينين عامين للأمم المتحدة، فضلا الإقامة في المدينتين: بيريث ديكويلار، وكوفي أنان، وسواهما من رؤساء دول وحكومات سابقين.
غيران القائمة الطويلة لمن وفدوا على أصيلة، إنما شغل بياضها الفنانون والمفكرون والأدباء والإعلاميون. هؤلاء أضفوا حيوية وحراكا وشغبا جميلا على المواسم الماضية ومنحوها وهجا، بما دار فيها من نقاشات خصبة واشتباكات فكرية سلمية على خلفية قضايا شائكة كانت شديد الراهنية لما أدرجها الموسم ضمن برامجه، فكانت له ريادة السبق في التطرق إليها.
وستحسب للوزير السابق محمد بن عيسى، خلال مساره الزاخر، عدة مكرمات وإنجازات ثقافية، ليس هنا مكان تعدادها والتنويه بها ولا سيما خلال فترة توليه مسؤولية وزارة الثقافة المغربية، نهاية الثمانينيات؛ إنما ينبغي التأكيد الوزير والنائب البرلماني السابق، لم يتخل عن مشروع أصيلة الذي أطلقه في مدينته من خلال “جمعية المحيط الثقافية” التي ستتحول، بعد أن توسعت أنشطتها، إلى المؤسسة الحالية التي ذاع صيتها. ظل لصيقا بالمشروع رغم المسؤوليات الرسمية التي اضطلع بها لسنوات أي في نهاية السبعينيات لم يكن محمد بن عيسى، بمثل الشهرة الحالية في بلاده. كان حديث العودة من إقامات ممددة في الغرب وإفريقيا، شغل اثناءها منصبا إعلاميا رفيعا في أجهزة الأمم المتحدة (منظمة التغذية والزراعة).
التجربة ألأممية، أتاحت لرئيس دبلوماسية المغرب السابق، التعرف والاحتكاك بعوائق التنمية في إفريقيا التي قضى بها أجمل سنوات عمره، منكبا على دراسة مشاكلها، ضمن إطار وظيفته. تأثرا بالبؤس الإنساني الذي عاينه وجاوره في الأماكن التي أقام بها، معرضا حياته لمخاطر المهنة.
وفي العادة، لا يفخر ألا قليلون بسجل عملهم وإقامتهم في إفريقيا، فهي مقرونة في الغالب ومن وجهة نظرهم، بالمصاعب الناتجة عن ضعف بنيات القارة السمراء نتيجة إهمالها من طرف الغرب الذي لا يهمه منها ألا ثرواتها الطبيعية التي تزخر بها وكذا سواعد أبنائها.
أدى أمين عام “منتدى أصيلة” دور المحامي المدافع عن القارة، من خلال ما كان يرفعه من تقارير عن أوضاعها إلى الأجهزة المعنية في الأمم المتحدة؛ غير أن المرافعات التي يفخر بها، هي تلك التي مارسها في مدينته أصيلة، حين انتبه في وقت مبكر إلى أهمية حوار الجنوب / جنوب؛ الذي قرأ عنه في أدبيات الأمم المتحدة.
ففي سياق وخضم الحوار بين فضاءين شاسعين، افردت أصيلة عدة ندوات للموضوع خلال دورات الموسم. اهتمام تنامى بل تكثف معها الحضور الأفريقي في أصيلة، إذ حج المئات من كبار المسؤولين السياسيين، من كان منهم في الخدمة، أو بعد انتهائها. واظبوا على الحضور، كون ذلك يحقق لهم هدفين: مناقشة مشاكل القارة والتحاور مع الأفارقة ومع الضيوف المدعوين والاستماع وتبادل الأفكار معهم الغاية، حيث تحدث أحيانا مواجهات فكرية ساخنة بين ممثلي الجنوب والشمال. بعبارة أخرى بين الغرب في صف والعرب والأفارقة في الواجهة الأخرى.\
لم تؤثر الأزمة الدبلوماسية التي أدت إلى انسحاب المغرب من منظمة الوحدة الأفريقية، جراء الخطأ الجسيم الذي ارتكبته المنظمة في حق المغرب، وهو عضو مؤسس، فقد قبلت في جسمها ا “الورم السياسي” الذي استشرى تحت مخيمات “تندوف” بتشجيع من جهات باتت معروفة لدى الخاص والعام.
الوزير، محمد بن عيسى، واحد من المسؤولين المغاربة الذين راهنوا على أن القارة السمراء، ستتدارك خطأها وستتراجع عنه في الظرف المناسب والمواتي.
كان يعرف أكثر من غيره طباع وروح اهل القارة مثل يقينه أن الرباط لن تتنكر لعمقها الأفريقي، لذلك أبقت على جسور التواصل مع عدد من دول القارة، بل شمل التعاون أنظمة انساقت وراء وهم جمهورية تندوف.
الأن وقد عادت افريقيا الى المغرب أو عاد هو إليها. ليس المجال هنا للتفاخر بمن كان السباق للمبادرة والخطوة الأولى.
ما يهم أن موسم أصيلة، أدى دوره الثقافي. حافظ على جسر المودة المغربية والإفريقية من خلال الثقافة والفنون، إلى أن نضجت الظروف فطويت صفحات الأزمة. لقد حصل تطور في الجانبين وتجدد اللقاء بالأحضان في العاصمة الأثيوبية.
لم تختف إفريقيا من أجندة انشغالات موسم أصيلة، بل خصصت لها الندوة الأولى الكبرى ضمن فعاليات الدورة 32 لجامعة المعتمد بن عباد الصيفية؛ ما يعني أن جسور التواصل الفكري ما زالت فاعلة، تدعم التحركات الدبلوماسية الكثيفة التي يباشرها المغرب، في افق الإكثار من أوجه التعاون الثنائي والمتعدد، بين المغرب وقارته الأم باعتباره أحد مكوناتها الجغرافية؛ يمدها بما راكمه من خبرات وتجارب، وبخلاصة ما استوعبه من دروس وهو يصنع نهجه الخاص في التنمية التقدم.
بدأنا بالتساؤل عن مآل مسم أصيلة؟ الشخص الذي نهض به، قال في حفل اختتام الدورة الأخيرة، بروح متفائلة وعافية صحية وبرؤية ترنو نحو المستقبل: إنه سعيد بأن يضرب موعد الموسم على مدى العقود الأربعة المقبلة، لكن المتحدث البراغماتي، اشترط أن يستعد شباب المدينة لحمل المشعل وأن يضحوا باليسير مما ضحى به البناة المؤسسون. الطريق الآن معبدة وسالكة.
كيف ستكون مواسم اصيلة ما بعد الدورة الأربعين في السنة المقبلة؟ قد يتغير الشكل والإخراج لكن الروح باقية لأنها تستمد قبسها من المغرب المنفتح والمتعدد.