إن المجزرة التي حدثت في تونس الأسبوع الماضي بمتحف «باردو»، ليست فقط مجرد ضربة إرهابية نوعية في الصميم، بل إنها حادثة يُمكن أن تشكّل محطة تاريخية مُؤثرة في تاريخ تونس الاقتصادي والاجتماعي بشكل أخص.
بمعنى آخر، يمكن لنا أن نتحدث اليوم عن تونس ما بعد مجزرة متحف «باردو». ومن ثم، فإننا أمام فاصل تاريخي مهم، يستحق منا انتباها مخصوصا جدا: فهي مجزرة نوعيّة لأنها الأكبر في تاريخ تونس، إضافة إلى أن منطقة «باردو» هي منطقة شهيرة جدا في تونس ولها تاريخ كبير، من ذلك أنها احتضنت المدرسة الحربية (أول مدرسة عصرية أسسها أحمد باشا باي سنة 1840). ويوجد فيها – أي منطقة باردو الكثيفة الحركة والعمران – مقر مجلس النواب. لذلك، فإن منطقة «باردو» هي منطقة سياسية تاريخية وثقافية، باعتبار أنها تضم أكبر متاحف تونس، دون أن ننسى أن الاعتصام الشهير الذي قامت به المعارضة التونسيّة وأجبر الحكومة التونسية على تقديم الاستقالة، قد تم في منطقة «باردو» أمام المجلس الوطني التأسيسي آنذاك.
وبالنظر إلى هذه المعطيات وغيرها، فهي منطقة ذات محمول رمزي تاريخي سياسي وآني في نفس الوقت. وهكذا نفهم دلالات اختيار الإرهابيين لمنطقة «باردو» تحديدا؛ ذلك أن استهداف السياح كان من الممكن أن يكون في مناطق وفضاءات أخرى.
دون أن تفوتنا أيضا العداوة البغيضة التي تكنها هذه الجماعات الإرهابية للمتاحف واعتداءاتها المستمرة عليها وعلى الآثار، كلما أتيحت لها الفرصة. وعلاوة على المعاني الرمزية لمجزرة «باردو» والأرواح البريئة التي أُزهقت فيها، فإن تونس ما قبل المجزرة ليست نفسها فيما بعد.
ولا نعتقد أن الإجراءات التي اتخذتها الدولة مثل غلق الجوامع غير المرخص لها والأخرى التي كانت خارج سيطرة الدولة، وأيضا عزل وجوه أمنية.. كل هذه الإجراءات وغيرها كافية لمعالجة آثار المذبحة وتداعياتها.
وفي الحقيقة وإنْ كانت هذه الضربة هي من النوع القاصم للظهر بالنسبة إلى النخبة السياسية الحاكمة الفائزة في انتخابات ديسمبر (كانون الأول) 2014، فإن مكمن الوجع هو اقتصادي بامتياز.
فالسياحة تمثل كما هو معروف رافدا مهما من روافد ميزانية الدولة التونسية. وإذا ما وضعنا في الاعتبار أن هذه المجزرة تمت في بداية الموسم السياحي، الذي في ضوئه تتحدد آفاق الوضع السياحي ومداخيله.
ولولا اعتماد تونس في السنوات الأخيرة على الحضور الليبي المكثف، وأيضا على السياح الجزائريين، لقلنا إن اقتصاد تونس قد انهار تماما.
طبعا، المشكلة أن آلاف السياح الأوروبيين يُسهمون في تغذية مخزون العملة الصعبة، إضافة إلى أن سوق السياحة في تونس تنتعش من الأوروبيين بشكل أساسي، باعتبار أن الأوروبيين هم العصب الأساسي لسياحة الفنادق خلافا لليبيين الذين خلقوا بوجودهم المكثف والمطول سوق كراء الشقق.
إن تونس منذ أشهر تعيش وضعا ماديا حرجا بدليل أنها لم تستطع الاستجابة لمطالب أساتذة التعليم الثانوي، وتم لأول مرة عدم إجراء امتحانات الثلاثي الثاني وتأجيلها إلى حين استئناف الدروس بعد عطلة الربيع.
ولقد استبشرت النخبة السياسية خيرا بنزول الأمطار وبحصول تونس على القرض الرقاعي.. غير أن مجزرة متحف «باردو»، التي ستُخلف حالة فجيعة لدى الأوروبيين ستُحدث شرخا في مداخيل الدولة التي تعول على عائدات السياحة.
ولعل الرحلات السياحية التي أعلنت وكالات أسفار أوروبية كبرى إلغاءها، تمثل بداية لسلسلة من الإلغاءات، باعتبار أننا في بداية موسم سياحي يمتد إلى سبتمبر (أيلول) المقبل، وكانت الآمال المعلقة عليه كبيرة جدا.
المشكلة من جهة أخرى، أن تونس ما قبل المذبحة، كانت تعتقد أنها في منأى عن كارثة الإرهاب وأنه محاصر ومحدّد الجغرافيا والعناصر، خصوصا بعد تمكنها من السيطرة الجيدة على الإرهاب في فترتي الانتخابات التّشريعية والرئاسيّة في أكتوبر (تشرين الأول) وديسمبر 2014. وكذلك التهديدات التي قامت بها بعض العناصر الإرهابيّة في الأيام التي سبقت ليلة رأس السنة الميلادية الأخيرة.
وفي إطار هذا الشعور الخاطئ، نضع الموقف السلبي (إعلان تونس عما سمته الحياد الإيجابي)، الذي اتخذته الخارجية التونسية من الدعوة المصرية لمحاربة الإرهابيين المتحصنين بالتراب الليبي. وأيضا الضربة التي قامت بها مصر كرد فعل ضد المذبحة التي تعرضت لها مجموعة من المصريين في ليبيا على يد الإرهابيين. ويبدو لنا أن درس مذبحة متحف «باردو»، يقول إن الحرب على الإرهاب واجب الجميع ويخطئ من يعتقد أنه فوق الإرهاب وشياطينه.
لا مفر من أن تراجع تونس في مرحلة ما بعد المذبحة وسقوط الأرواح البريئة، سياستها بخصوص مسألة الإرهاب. فالرسالة التي وجهها الإرهابيون قاسية وقوية ونوعية، وهو ما يحتم قطع دابره بالتعاون مع خصوم الإرهاب في المنطقة والعالم، وبالاقتناع بأن الوضع في ليبيا يُنبئ بأن القادم أعظم وليس اقتصاديا فقط.
* كاتبة وشاعرة تونسية/”الشرق الأوسط”