أخيرا أصبح موقف نقَاد السياسة الجزائرية داخل البلاد متطابقا مع مضامين التقارير الدولية المحايدة في ما يتعلق بعدم ديمقراطية النظام الجزائري في العهود السابقة وفي عهد الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة. التقرير الصادر هذا الأسبوع عن مجلة الإيكونوميست البريطانية كشف الوجه الحقيقي للنظام الجزائري الذي يرفض تغيير سلوكه المستحوذ على كافة السلطات والقرارات، والمعادي لتقليد تداول الحكم وتسيير المؤسسات وفق الأساليب المعمول بها في التجارب الديمقراطية.
صنف التقرير المذكور، الجزائر في المرتبة 118 على المستوى الدولي واعتبرها دولة غير ديمقراطية رغم كثرة الأحزاب ووجود البرلمان ومجلس الأمة والمجلس الدستوري وغيرها من المؤسسات، وهي جميعا لا تملك أي استقلالية عن الهرم الأعلى للسلطة الحاكمة والمتمثل في مثلث مؤسسة الرئاسة والمخابرات والجيش. ركز تقرير الإيكونوميست على تحليل طبيعة بنية نظام الحكم العسكري الذي يتدخل في كل شيء بما في ذلك تعيين إطارات الدولة، واللعب على إرادة الشعب في الانتخابات، وعلى غياب المشاركة السياسية للأحزاب وتنظيمات المجتمع المدني، وعلى هشاشة واقع الحريات.
لاشك أيضا أن النظام الجزائري لا يقدر أن يتهم مجلة الإيكونوميست بالتدخل في شؤون الجزائر لأنها منبر إعلامي جاد معروف بموضوعيته وبالتخصص في المعالجة العلمية للقضايا الاقتصادية وفي تحليل ونقد سياسات التنمية في بريطانيا وفي العالم، وذلك بعيدا عن أسلوب التحامل أو المؤامرة. وفضلا عن ذلك فإن النظام الجزائري ليست له أي حجة مقنعة يحشر بموجبها النقد الذي وجهته الإيكونوميست في خانة الموروث التاريخي، لأن بريطانيا لا تربطها بالجزائر علاقات الاستعمار مثل فرنسا، ولم تلوَح بالقوة لإملاء أي شيء يضر بالسيادة الوطنية الجزائرية، وبالعكس فإنها غضت الطرف سابقا عن الانقلاب الذي نفذه هواري بومدين ضد أحمد بن بلة، كما التزمت السكوت أثناء قيام النظام الجزائري بإلغاء أول انتخابات تعددية في يناير 1992 دون وجه حقَ. على ضوء كل هذه المعطيات فإن نقد الإيكونوميست للدكتاتورية في الجزائر يدخل في نطاق إبداء الرأي والعتاب الناعمين اللذين لا يفسدان للود قضية.
المعايير التي استخدمتها مجلة الإيكونوميست مغرقة في الانتقائية وغير دقيقة بشكل ملفت للنظر، لأنها اكتفت بالجوانب السياسية وبقضية الحريات بحيث لم تشمل جوانب أساسية وحيوية مثل طغيان الفساد المالي والإداري في جميع هياكل الدولة إلى حد لا نجد له مثيلا، إذ تورط كبار المسؤولين، وأعضاء في الهيئات العليا في سرقة الملايين من الدولارات ولا أحد في مؤسسة الرئاسة تحرك لمعاقبة المذنبين في حق أموال الشعب الجزائري. وأكثر من ذلك، فإن الانتخابات الجزائرية منذ الاستقلال لم تكن شفافة أو عادلة، بل كانت في الغالب مزوَرة ومطبوخة سلفا لصالح النظام الحاكم. تجاهلت مجلة الإيكونوميست النمط العائلي والجهوي والمزاجي للحكم في ظل حكم الرئيس بوتفليقة، في سابقة لم تشهد الجزائر مثلها في عهود بن بلة وهواري بومدين والشاذلي بن جديد واليامين زروال. ثمَ إن معايير الدكتاتورية لمجلة الإيكونوميست قد أسقطت من قوائمها ظواهر مادية ورمزية تعتبر جزءا عضويا من ثقافة النظام الحاكم مثل إلغاء الشريحة الوسطى من الخارطة الاجتماعية وتفقير الشريحة العمالية اقتصاديا والسيطرة عليها نقابيا، وتفكيك البنية الفلاحية التي كانت في الماضي صمام أمان الاقتصاد الوطني. إن تحطيم هذه البنيات القاعدية من طرف النظام يهدف إلى ضرب حركة التمدن للشرائح الوسطى والعمالية والفلاحية، وإلى كبح جماح قوى اجتماعية مرشحة للعب دور اجتماعي وسياسي.
إقرأ أيضا: تعديل الدستور ولعبة النظام الجزائري النمطية
والأفظع من كل هذا هو ما يحدث الآن من محاولات تضليل للوعي الشعبي بخصوص مفهوم وشروط خرافة الدولة المدنية في الجزائر. فالنظام الحاكم يوهم المواطنين بأن حلَ جهاز دائرة الاستعلامات والأمن المخابرات ووضعها في قبضة الرئيس بوتفليقة، واستبدالها بمديرية المصالح الأمنية الموكلة شكليا للجنرال بشير طرطاق المعين بصفة “مستشار” وبرتبة وزير فوق العادة لدى رئيس الجمهورية، هو الطريق إلى الدولة المدنية.
كيف يعقل هذا في الوقت الذي يمسك فيه بوتفليقة بكل من وزارة الدفاع والرئاسة والمخابرات والجهاز القضائي باعتباره القاضي الأول والوحيد في البلاد، وبالمجلس الدستوري، وبحق حل البرلمان ومجلس الأمة، وبتعيين رئيس الوزراء ووزرائه والسفراء والقناصل، وكل الموظفين السامين في أجهزة الدولة مركزيا وخارج الوطن وفي الجزائر العميقة؟ أليس هذا عنوانا لحكم الرئيس الأوحد؟ ألا يتناقض هذا مع تعريفات الدولة سواء في أدبيات القانون الديمقراطي الدولي، أو في نظريات الدولة الوطنية الشعبية أو الدولة الديمقراطية التي رسم معالمهما مفكرون منحازون للحرية وللإرادة الشعبية الحرة؟ ثم هل الدولة وسيلة أم غاية؟
يقول المفكر المغربي عبدالله العروي إن “الدولة تنظيم اجتماعي فهي اصطناعية. لا يمكن أن تتضمن قيمة أعلى من قيمة الحياة الدنيا كلها. تتعلق القيمة بالوجدان الفردي، إذ تتجه نحو الغاية المقدرة له. إذا كانت الدولة في خدمة الفرد لكي يحقق غايته فهي مقبولة شرعية، مع أنها تبقى اصطناعية ومؤقتة مثل جميع الكائنات. إذا هي تجاهلت الهدف الأسمى أو عارضته وإذا منعت الفرد من أن يلبي الدعوة الموجهة إلى وجدانه أو ضايقته، فهي مرفوضة لا شرعية”.
إذا طبقنا هذه المعايير فإن الدولة القائمة على العصبية العائلية والجهوية وتحالفات أحزاب الموالاة، وعلى استبعاد التنظيمات الشعبية، بقيادة الرئيس الأوحد الجامع لكل السلطات، يصبح شعار الدولة المدنية المرفوع من طرف النظام الجزائري أسطورة مفرغة من أي اعتقاد.
كاتب جزائري/”العرب”