بقلم: هيثم شلبي
مع تباعد البلاغات العسكرية التي تصدرها ميليشيا مرتزقة البوليساريو، وتنشرها وكالة الأنباء الجزائرية “حصريا”، حول عمليات عسكرية “وهمية” لا يؤمن بحدوثها حتى ناشروا أخبارها! يبدو واضحا أن الواقع في الأقاليم الجنوبية المغربية يفرض نفسه، وأن قدرة مرتزقة البوليساريو على دخول المنطقة العازلة، والتي يسمونها -زورا وبهتانا- “المنطقة المحررة”، ويسميها المغاربة وباقي محتجزي مخيمات تندوف “المنطقة المحرمة”، قد أصبحت معدومة، وذلك بفضل تطور الوسائل القتالية المغربية العاملة في الصحراء، لاسيما الطائرات المسيرة الاستطلاعية والهجومية.
هذا الواقع الجديد، المستقر منذ فترة طويلة، ينهي أوهام النظام الجزائري حول قدرة مرتزقته في إحداث ضرر عسكري يذكر في صفوف قوات خصمه المغربي، لتبقى ساحة السياسة، المختلة أصلا لصالح المغرب، هي ساحة المواجهة الوحيدة المتاحة، في إطار عناده المرضي للوحدة الترابية لجاره وخصمه.
ومع “بروفة” معبر الكركرات في نوفمبر 2020، والتي تم خلالها تطهير المعبر ومحيطه من أي تواجد لمرتزقة البوليساريو، والذين لطالما استغلوا كون المنطقة -بالنسبة لقوات المينورسو الأممية- هي “منطقة عازلة”، تخلو من القوات المسلحة المغربية.
وبهذا، قام الجيش المغربي بأهم مناورة منذ وقف إطلاق النار مطلع تسعينيات القرن الماضي، وأنهى “عمليا” ما يسمى بالمنطقة العازلة حول الكركرات، وأمن تجارته مع موريتانيا من عربدة مرتزقة النظام الجزائري، ومنع للأبد وصول مرتزقة البوليساريو إلى المحيط الأطلسي؛ والأهم، أن كل ذلك قد تم دون أدنى اعتراض من الأمم المتحدة أو قواها العظمى!
لقد كان المغرب هو المبادر إلى صناعة هذه المنطقة العازلة، عندما قام ببناء الجدار الرملي الأمني على طول أزيد من 2700 كيلومترا، كوسيلة لتأمين صحرائه، وتجنب خوض مواجهة عسكرية مباشرة مع الجزائر، إذا ما قام بملاحقة مرتزقتها في عمق مخيمات تندوف.
جدار قام، ولا يزال، بأدوار عسكرية غاية في الأهمية، ويمنع عمليا أي دخول لمرتزقة البوليساريو إلى المنطقة العازلة. ومع تطور القدرات العسكرية المغربية، رصدا بالأقمار الصناعية والرادارات والطائرات المسيرة، أو هجوما بمختلف أنواع الأسلحة، استطاع الجيش المغربي أن يحرم مرتزقة البوليساريو من أخذ بعض “اللقطات” التي تؤرخ لتواجدهم في بير لحلو وتفاريتي داخل المنطقة العازلة، لتغذية وهم “المنطقة المحررة”، وبالتالي تؤهل المغرب “لتعميم” سابقة الكركرات، وإنهاء المنطقة العازلة رسميا! وعليه، يبسط المغرب سيطرته العسكرية المباشرة على كامل ترابه الوطني، ويحشر مرتزقة البوليساريو في تندوف ومحيطها!
لحظة لا تبدو بعيدة، على الرغم مما يثيره بعض “المشوشين” عليها، من قبيل إمكانية اعتراض قوات المينورسو عليها، على الرغم من أن هذه الأخيرة، كانت شاهدة على بضع عمليات تسلل إرهابية، أدت إلى مصرع مواطنين أبرياء، وهو الأمر الموثق في تقاريرها الأممية، إضافة إلى خروقات أخرى تحفل بها المراجعة الدورية لتفويضها من قبل مجلس الأمن.
خطوة قوّاها المتغير الأخير الذي حمله قرار وزير الداخلية الموريتاني بتاريخ 11 فبراير الماضي، باعتماد بلاده رسميا ل 82 معبرا حدوديا، 21 منها دولية يتاح عبورها لرعايا جميع الدول، والباقي ثنائية تخص مواطني البلدين الحدوديين حصريا، فكيف ذلك؟
إن مجرد إلقاء نظرة على المعابر الحدودية الموريتانية مع كل من المغرب والجزائر ومالي والسنغال، يعطي فكرة لا يجحدها إلا جاهل، حول مآلات هذا النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، ويبين لمن لا يزال محتاجا لدليل في بلاد الجنرالات، أن موريتانيا قد حسمت خيارها الاستراتيجي باختيار المغرب شريكا سياسيا واقتصاديا يحظى بالأولوية.
فبنظرة على المعابر الدولية تحديدا، نجد أنه بجانب المطارات والموانئ الموريتانية الستة، في كل من نواكشوط (2) ونواذيبو (3) وأطار (1)، والتي هي دولية بطبيعتها، فقد توزعت باقي المعابر ال 15 على الشكل التالي: 9 مع المغرب (ثلاثة في ولاية داخلة نواذيبو: معبر نواذيبو 55 “الكركرات”، معبر ادويره، ومعبر اتميميشات؛ وواحد في ولاية أدرار: معبر شوم؛ وخمسة في ولاية تيرس زمور: معبر الكلب، معبر افديريك، معبر اتواجيل، معبر أم كرين، ومعبر بنتيلي)؛ 3 مع مالي (معبر أدوينكارا، معبر عدل بكرو، ومعبر كوكي الزمال)؛ 2 مع السنغال (معبر روصو، ومعبر جاما)؛ ومعبر يتيم مع الجزائر (معبر إسماعيل الولي الباردي)!! دون إغفال وجود معبر ثنائي موريتاني مغربي ذو طبيعة ثنائية (معبر الشكات)، الأمر الذي يرفع المعابر بين البلدين الجارين إلى 10!
عشرة معابر بين موريتانيا والمغرب، مقابل واحد فقط بين موريتانيا والجزائر، ولا يزال إعلام النظام الجزائري يوالي نشر أخبار متابعة الرئيس عبد المجيد تبون لمستجدات بناء الطريق الواصل عبره بين تندوف والزويرات، والترويج لانفتاح التجارة الجزائرية على عمقها الأفريقي!! وهنا يبرز سؤالين: ما الذي يبرر امتلاك هذا العدد من المعابر الدولية بين المغرب وموريتانيا؛ وما الذي سيترتب على ذلك مغربيا؟
من البديهي أن يعتبر الكثيرون أن حجم التجارة الحالية بين موريتانيا والمغرب لا يحتاج إلى عشرة معابر، فمعظم هذه التجارة يمر عبر معبر الكركرات (نواذيبو 55) حاليا، وبانسيابية مشهودة.
واقع سيتعزز أكثر بعد الافتتاح القريب لمعبر أم كرين الذي سيربط المدينة الموريتانية مع مدينة السمارة (ومنها لمدينة العيون) عبر بلدة أمكالا. أما باقي المعابر الدولية والثنائية، فإنها ستؤمن الربط بين شبكة الطرق الموريتانية ونظيرتها في الأقاليم الصحراوية المغربية، لاسيما حاضرتي العيون والداخلة، ناهيك عن باقي مناطق شرق المغرب ووسطه وشماله، مما يتيح خيارات واسعة للوصول إلى موريتانيا، ومنها إلى عمق الغرب الأفريقي. ومن الجدير ذكره هنا، أن معبري أم كرين وعين بنتيلي اللذان سيرتبطان بمدينة العيون عبر مدينة السمارة، يبعدان عن الحاضرة المغربية بواقع 350 و 400 كيلومتر على التوالي.
بينما ترتبط المعابر الثمانية الأخرى بمدينة الداخلة، ومينائها المنتظر افتتاحه بعد عامين ليصبح واجهة المغرب الأطلسية الكبرى، بل والميناء الأفريقي الأكبر على المحيط الأطلسي، والمتنفس الرسمي لدول الساحل الأربع: تشاد، النيجر، مالي، وبوركينافاسو.
معابر تبعد عن ميناء الداخلة أكثر أو أقل قليلا من 400 كيلومتر، الأمر الذي سيتيح للسنغال وما يليها استعمال المعابر الأربعة في ولايتي داخلة نواذيبو وأدرار، بينما سيسهل على دول الساحل استخدام المعابر المالية الثلاثة مع موريتانيا، والانتقال بعدها إلى المغرب عبر المعابر الدولية الخمسة في ولاية تيرس زمور الموريتانية للوصول إلى الداخلة والعيون، وباقي مناطق المغرب.
أما الفائدة غير المباشرة، والتي تشكل مصدر الخوف الأساسي لجنرالات الجزائر، وتبرر “السعار” الذي أصاب مرتزقتهم في البوليساريو تجاه المعابر الموريتانية الجديدة، فهي حقيقة أن المغرب سيكون مضطرا لتأمين طرقه البرية المرتبطة بالمعابر الموريتانية، وتأمين حركة السير خلالها من أي تهديدات محتملة من مرتزقة البوليساريو، وبالتالي تكرار سيناريو الكركرات المرعب، الذي لا يزال يقض مضاجع الجنرالات ومرتزقتهم، تسع مرات!! فتأمين هذه الطرق التي تمر بالضرورة في أراضي الصحراء المغربية، وتحديدا من المنطقة العازلة، ستنهي حلم المرتزقة في أن تطأ أقدامهم الأقاليم الصحراوية بعد ذلك، بما فيها مناطق بير لحلو وتفاريتي القريبتين من معبري بنتيلي وأم كرين، والتي لطالما روجوا لكونهما حاضرتي المناطق “المحررة”!
إن الشبكة الطرقية الحالية بين موريتانيا ومالي والسنغال، تتيح لهذه الدول الأفريقية جنوب الصحراء الوصول إلى ميناء الداخلة عبر مدينتي نواكشوط ونواذيبو، حيث تبعد داكار عن نواذيبو قرابة 1500 كلم؛ وتبعد باماكو 1900 كلم؛ أما نيامي فتبعد 2300 كلم؛ بينما تبعد واغادوغو حوالي 2800 كلم؛ وتبقى نجامينا الأبعد بقرابة 5000 كلم. أما عند افتتاح المعابر الجديدة، وربطها بدول الساحل عبر طرق جديدة، فمن المتوقع أن يصبح الوصول إلى الداخلة متاحا عبر أكثر من طريق، وبشكل أسرع وأسهل، مما يفتح آفاقا واعدة للمنطقة برمتها.
ختاما، فتجاوز منطق الصراع العدمي الذي يصر جنرالات الجزائر على زج المنطقة برمتها في أتونه، من شأنه أن يتيح فرصا لا متناهية للتعاون، ويفتح أفاقا واعدة للتنمية في وسط وغرب القارة السمراء، وتعزيز التكامل بين المنطقتين وباقي الشمال الأفريقي، الأمر الذي يجسد على أرض الواقع معادلات رابح- رابح في نطاق التعاون جنوب- جنوب، التي لطالما نادى بها الملك محمد السادس؛ فهل يخضع جنرالات الجزائر لصوت العقل ومنطق المصالح، وينهون هذه الحرب العدمية المفتعلة، ويوقفون بالتالي سلسلة خسائرهم، أم سيبقون على إصرارهم على سلوكهم الحالي الذي يكبدهم الخسائر اليومية داخليا وخارجيا، بسبب تجريدهم المتسارع مما تبقى من أسلحة متاحة للاستمرار فيه؟!