بقلم: خالد عمر بن ققه*
التغييرات التي أجراها الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة في الفترة الأخيرة وطالت بالأساس قيادات فاعلة ومؤثرة في المؤسسة الأمنية، بَدّت فيها الدولة الجزائرية ـ رغم دستوريتها ـ خاليةً من رؤية سياسيّة على مستوى السلطة، تُمكِّنها من تحقيق وعود سابقة وأخرى لاحقة لمناخ ديمقراطي سليم من جهة، والمحافظة على السلم الأهلي والأمن المجتمعي من جهة ثانية، طبقا لمقايضة تكرّست منذ انتخاب بوتفليقة في 1999، حيث التسليم الشعبي ببقائه وتأييده لفترة رئاسيّة ثالثة رغم مرضه وعجزه العلني، مقابل توفير الأمان وإبعاد الجزائر عن مسار فوضوي ودموي، آل إليه كثير من الدول العربية بعد الانتفاضات الحاصلة في عدد منها.
لقد أثارت تلك التغييرات ردود أفعال على نطاق واسع على المستويين السياسي والإعلامي، فبالنسبة للأول، فقد تراوح بين التبشير بمرحلة جديدة خالية من المتابعة الأمنية غذتها القوى والشخصيات المساندة للسلطة، وبين الرفض المطلق واعتبارها كارثة حلت بالدولة، من ذلك ما ذهبت إليه لويزة حنُّون ـ الأمينة العامة لحزب العمال ـ حيث رأت في عدد من اللقاءات الصحفية والندوات والملتقيات الجماهيرية أن التغييرات الأخيرة خاصة إدخال بعض الجنرالات إلى السجن على خلفية اجتهاداتهم الناجعة لحماية الدولة في حينه، تعتبر خيانة وطنية والهدف منها تفكيك المؤسسة الأمنية لصالح جماعات الفساد، مطالبة الرئيس بوتفليقة بتوضيح ما يقوم به للشعب، وعدم مساندتها طرفا على حساب آخر داخل مؤسسة الحكم، لأن هذا يؤثر سلبا على المصالح العليا للدولة.
للمزيد:المعارضة الجزائرية تضع خارطة طريق لمواجهة قرارات السلطة
أما على المستوى الإعلامي، فقد ركّزت معظم وسائل الإعلام على ملفات القيادات الأمنية وأعمالها خلال السنوات الماضية، غير أن بعض المقالات التحليلية، خاصة ما كتبه سعد بوعقبه ـ المعروف بمواقفه الجريئة تجاه كل الرؤساء والحكومات ـ في عموده اليومي « نقطة نظام « الذي ينشر في جريدة» الخبر» حول تلك التغييرات يثير الانتباه لجهة المقارنة بين التجربتين المصرية والجزائرية، حيث رأى بوعقبه» أن النظام الجزائري يعيش هذه الأيام فى مرحلة السنوات الأخيرة لحكم الرئيس الأسبق حسنى مبارك، حيث انتشار الفساد وهذا أصبح شائعا ومقننا في الجزائر، بل إن حماية السلطة لجماعات الفساد صارت مكشوفة وعلنية، وهناك حديث عن توريث السلطة لأخ الرئيس، وذلك غير مستبعد أن نجد وثائق المؤسسة الأمنية الجزائرية مرمية في الشوارع في المستقبل المنظور، تماما مثلما حدث في مصر أيام انتفاضة يناير.
التحليل السابق يشي بتدهور سياسي وأمنى واجتماعي في الجزائر، لا لأن التغييرات التي أجراها الرئيس بوتفليقة مكّنت قيادة الأركان فى الجيش الجزائري من بسط سيطرتها، ودعمت قادتها ــ وهى الحاسمة في كل المراحل المصيرية في تاريخ الجزائر منذ الاستقلال ـ وإنما لأنها مثّلت إنهاء دور مؤسسة أمنية أبلت بلاء حسنا في زمن الإرهاب، ومكنت البلاد من تجاوز محنتها، والنتيجة المباشرة لتك التغييرات هي عودة أولئك الذين كانوا طرفا أساسيا في الأزمة للمطالبة اليوم بحقهم في العودة إلى ممارسة النشاط السياسي، وأقصد هنا قادة الجيش الإسلامي للإنقاذ وعلى رأسهم أميرهم السابق» مدني مرزاق»، حيث أعلن أن الاتفاق مع السلطة كان أمنيا وسياسيا وليس أمنيا فقط، ما يعنى أن الشعب الجزائري لا يعرف تفاصيل الاتفاق، الذي على أساسه تمَّت المصالحة الوطنية، وإن كان بعض السياسيين والعسكريين يتوقع زيادة في جرعة الديمقراطية واتساع مساحتها، كون أن المؤسسة الأمنية كانت تقف حائلا دون ممارسة النشاط السياسي بكل حرية.
مهما تكن نسبة التأييد أو الرفض للتغييرات الأخيرة، أو مخاوف البعض بما في ذلك دول الجوار، فإن التجربة الجزائرية في الحكم لايؤسس لها من خلال القرارات التي تتّخذ، وإنما من زمنيّة الحدوث، حيث تشير الشواهد التاريخية إلى وقوع مفاجآت عند الأزمة، والتي ظهرت بالموت كما هو الأمر في حالة هواري بومدين، أو بالاستقالة كما حدث مع الشاذلي بن جديد، أو بالاغتيال كما حدث مع محمد بوضياف، أو بالتخلي على السلطة طواعية كما هو الأمر في تجربة اليامين زروال، وتبقى أمامنا التجربة الوحيدة التي خٌطٍّط لها وحققت نتائج مباشرة، تتعلق بتعديل مسار الثورة، وسٌمِى بالتصحيح الثوري، الذي قام به الزعيم الراحل هواري بومدين.
وبعيدا عن التوقعات المستقبلية لمصير نظام الحكم في الجزائر، وأيضا عن الصدام المحتمل قريبا ببن مختلف القوى السياسية، والتوتر في شبكة العلاقات الاجتماعية على خلفية انخفاض أسعار النفط، وتمكن جماعات الفساد من تشكيل لوبيات مؤثرة على صانع القرار،يُحتمل أن تؤدى إلى صراع بين عناصر تلك الجماعات، بدأت تظهر في محاسبة بعض رجل الأعمال والتغاضي على رؤوس الفساد والمطلوبين قضائيا في الداخل والخارج.. بعيدا عن كل هذا فإن عدم الاستفادة من مآلات حسنى مبارك في مصر أو زين العابدين بن على في تونس أو معمر القذافي في ليبيا، بالإبعاد بالسجن والمحاكمة أو بالهجرة والتغييب، او بالقتل ومحاكمة الأقرباء والمؤيدين والزبانية، يكشف عن ضبابية في الرؤية، وضيق في الأفق، ورهان عن مستقبل قد لا يأتي أبدا بالصيغة المعول عليها.
تمصير الجزائر في هذه الأيام مدعاة للتشاؤم، تأسيسا على دلائل ومعطيات تكشف عن سباق محموم للسلطة الجزائرية تكون نهايته الفوضى العارمة، ولكن هذا المصير نفسه ـ إن حدث لا قدر الله ـ هو بداية تحقق أماني المتفائلين مثلي، الذين يعولون على تراكم تجربة ناضجة في الجزائر، لن تسمح بتوريث السلطة لأيّ من الذين ينجذبون نحوها اليوم، وأن الجيش الجزائري يغازل الحكم ويسانده عند اللزوم، لكنه عند الضرورة لا يرى إلا الجزائر، وأن تجربة العشرية السوداء لن تتكرر، وأن القادة الأمنيين المبعدين عائدون، لأنهم حماة الجزائر في الليالي الحالكات.
*كاتب جزائري/”الأهرام”