بقلم: هيثم شلبي
على الرغم من عدم وجود ربط ظاهري بينهما، شهدت الجزائر خلال الساعات الماضية حدثين يظهران إلى حد كبير طبيعة “الإدارة” التي تعتمدها سلطاتها كوسيلة لتدبير ما بين أيديها من شأن عام. أول هذه الأحداث هو ما تسرب عن خطف الناشط الجزائري المعارض المقيم في فرنسا هشام عبود، بعد نزوله في مطار برشلونة، وذلك ظهر الخميس الماضي، قبل أن يعلن مساء الأحد عن تمكن قوات الأمن المحلية عن تحريره في إشبيلية، وإلقاء القبض على اثنين من خاطفيه (أو خاطفيه الأربعة)؛ والحدث الثاني تمثل في تأجيل وتغيير مواعيد وإلغاء أزيد من مئة رحلة دولية ومحلية للخطوط الجوية الجزائرية، مع ما سببه ذلك من إرباك للمسافرين المعنيين، والأدهى أن هذه الفوضى أتت دون أن تقوم الخطوط الجزائرية، ولا الجهة التي أصدرت لها الأوامر بذلك، بأي تبرير لهذا القرار الغريب غير المفهوم.
وبالعودة إلى اختطاف الناشط هشام عبود، ونظرا للغياب المتوقع لأي معطيات من طرف السلطات الجزائرية، التي كانت تمني النفس باستلام عبود في معتقل عبلة الدموي الشهير، يوما قبل الإفراج عنه، مع تواتر الأنباء عن الأجواء “الاحتفالية” لمحيط الجنرال عبد القادر حداد، المدعو ناصر الجن، مدير الأمن الداخلي، استعدادا لاستقبال “صيدهم الثمين”!! وسواء كانت محاولة اختطاف عبود الفاشلة هي أولى ثمرات تولي الجنرال محمد رشدي فتحي موساوي مهام رئاسة جهاز الأمن الخارجي خلفا للجنرال جبار مهنا (يا لها من بداية!!!)، أم كانت استمرارا “لإنجازات” الجنرال ناصر الجن، رغم أن العمل خارج البلاد ليس من اختصاصه، فإن الخلاصات التي خرجنا بها من هذا الحدث هي نفسها. أول هذه الخلاصات هي أن سلوك النظام الجزائري بمختلف سلطاته، لا يزال أبعد ما يكون عن “سلوك الدولة” التي تمتلك مؤسسات بمهام وصلاحيات محددة، حيث لا يزال يتصرف -كما تصرف دائما- ك”مافيا” لا يضبط سلوكها قانون، ولا تعترف بأخلاق. فلو كان هناك تهمة جنائية محددة، ترجمت إلى حكم قضائي من طرف سلطة قضائية محترمة، بحق الإعلامي المعارض هشام عبود، فالسلوك الطبيعي للأنظمة التي تحترم نفسها هو تعميم مذكرة توقيف دولية، أو مطالبة السلطات الفرنسية مباشرة بتسليم عبود (إن كان القانون يسمح). وبالتالي كان الأمن الإسباني هو الذي سيتكلف بالقبض على عبود نتيجة مذكرة التوقيف الدولية، وليس مجموعة من “قطاع الطرق” المدفوعين من قبل الأجهزة الأمنية الجزائرية، دون اعتبار للتبعات القانونية والسياسية التي يمكن أن تنعكس على العلاقات الجزائرية الإسبانية، بل والأوروبية، السيئة أصلا، في حال فشلت العملية كما حدث فعلا. أما باقي حلقات مسلسل الاختطاف فلا تقل إثارة، حيث على السلطات الإسبانية كشف ملابسات الحادث، والجهات التي تقف وراءه، مع ما سيترتب على ذلك من تداعيات.
ثاني الأحداث الذي وقعت بالتزامن، جاء عبر إعلان الخطوط الجوية الجزائرية عن تأجيل وإلغاء وتغيير موعد عشرات الرحلات الداخلية والخارجية، ليزيد من تأزيم وضعية الشركة المأزومة أصلا، ويضفي مزيدا من القتامة على مستقبلها، والدمار لسمعتها، ويكشف زيف الدعاية التي تكفل بها الرئيس تبون نفسه عندما أعلن عن خطة لجعل الخطوط الجزائرية رائدة قاريا، وجسر ربط بين الأفارقة -وليس فقط الجزائريين- والعالم، دون أن يكلف نفسه -كالعادة- عناء شرح سبل وفرص تحقيق ذلك. هذه “الخفة” والهواية والبعد الشديد عن الاحتراف، والجهل التام بمفهوم “العلاقات التعاقدية” من طرف الخطوط الجزائرية، ما هو إلا عينة عن التدبير الكارثي العشوائي الذي يطبع العمل في مختلف مؤسسات النظام الجزائري، سياسية كانت أم تجارية أم صناعية أم خدمية. ويعلم الجميع أن مثل هذا القرار الارتجالي، لا يصدر إلا عن جنرال متنفذ في أحد أجنحة النظام، بحيث لا تستطيع سلطات الخطوط الجزائرية مجرد نقاشه، ناهيك عن الاعتراض عليه. وبسبب طبيعة النظام العسكري المغلق، فلم يكن متوقعا أن تكلف الخطوط الجزائرية نفسها عناء شرح وتبرير القرار، أولا لأنها لا تملك ذكر الأسباب الحقيقية، وثانيا لأن الزبون الجزائري -في نظرها- لم يصل بعد إلى مرتبة المواطن، الذي يحق له أن يفهم ما يجري في ما يفترض أنها بلاده. وفي وضع كهذا، جاءت أغلب التعليقات على الحدث، التي تحاول تبريره، أو على الأقل تفسيره، بأن لهذه الإلغاءات والتأجيلات علاقة بعرض عسكري جوي وبري بمناسبة احتفالات العسكر بالذكرى السبعين لثورة التحرير الوطني، التي هي منهم براء، “براءة الذئب من دم ابن يعقوب”، وهي مبررات إن صحت فيصدق عليها المثل: عذر أقبح من ذنب. إذ ما الذي يربط استعراض جوي عسكري، لطائرات خفيفة تقوم بحركات بهلوانية على الأغلب، فوق العاصمة الجزائرية، بمنع الطيران المدني من مطار هواري بومدين؟! هل الوضع أكثر سوءا من الوضع في بيروت التي لا تزال خطوطها الجوية تعمل على مدار الساعة دون إلغاء أي رحلة مبرمجة!! ألم يكن من الأجدى تحويل هذه الرحلات الملغاة إلى مطارات جزائرية أخرى كوهران وقسنطينة؟! ألم يكن ممكنا أن يقوم الطيارون المشاركون في الاستعراض بالتدريب في صحراء الجزائر الشاسعة بدل أجواء العاصمة الجزائرية؟! وغيرها من التساؤلات التي محصلتها تأكيد حجم الارتجال والتسيير الكارثي لمختلف مرافق الدولة الجزائرية بطريقة تؤكد أن شعار “القوة الضاربة”، ما هو إلا شعار مثير للسخرية، ولا يزال يفصله عن الواقع سنوات ضوئية من العمل، بعيدا عن فكر وسلوك جنرالات العسكر!!
ختاما، فسواء كانت السمة الأساسية لسلوك أجهزة النظام العسكرية هي العشوائية أو البلطجة، فإنها لن تقود إلى تسجيل أي تقدم يذكر في مستقبل هذا البلد، وستبقى شعارات الرئيس تبون حكما في خانة الدعاية الكاذبة، التي يكذبها الواقع قبل أن يكذبها أي معارض لهذا النظام الفاشل.