بقلم: هيثم شلبي
على غرار جميع التجمعات الإقليمية، تجري داخل الاتحاد الأفريقي استشارات انتخابية من أجل شغل المناصب المختلفة فيه، على اختلاف أهمية هذه المناصب طبعا، وذلك بشكل دوري لفترات تتراوح عادة ما بين عامين وثلاثة أعوام. ولكون القارة الأفريقية التي تضم 54 دولة (دون احتساب جمهورية تندوف) موزعة على خمس مناطق أو تجمعات إقليمية (شمال، جنوب، شرق، غرب، ووسط) فيمكن القول أن عددا محدودا جدا من الدول (إن وجد)، لم تنل نصيبها من شغل منصب هنا أو هناك؛ بل إن كثيرا من التجمعات الإقليمية تعتمد مبدأ التناوب بين دولها من أجل تجنب “حرج” التنافس بين أكثر من عضو فيها على منصب معين؛ لكنه سلوك لا تعتمده جميع التجمعات على كل حال. وكمثال، فمنطقة شمال أفريقيا التي تضم ست دول فقط (المغرب، مصر، الجزائر، موريتانيا، تونس، وليبيا)، وبسبب قواعد توزيع المناصب بعدالة على المناطق الأفريقية الخمسة، حكما وبالضرورة ستحظى بنصيبها من هذه المناصب، دون ربط ذلك بمدى أهميتها أو نفوذها الأفريقي.
لكن هذا المنطق البسيط الذي يؤكده الواقع، يبدو بأنه غير قابل للاستيعاب من لدن جنرالات الجزائر وأبواقهم الإعلامية، بحيث يحوّلون كل عملية اختيار -أوتوماتيكية في كثير من الحالات- لمسؤول جزائري لأحد المناصب داخل هياكل الاتحاد الأفريقي (أو خارجها) إلى “فتح” دبلوماسي “يقدم دليلا إضافيا على قوة الجزائر الضاربة وثقلها الأفريقي”، وهو ما لا نلاحظه في حالة باقي بلدان القارة نهائيا، الأمر الذي يحوّل النظام الجزائري إلى “أضحوكة” عمليا من قبل باقي الأفارقة! ولعل أصدق مثال على ذلك، حجم الضجيج الإعلامي الذي رافق اختيار الجزائر للعضوية غير الدائمة في مجلس الأمن، وما أعطي له من دلالات لا تمت للواقع بصلة، على الرغم من أنها كانت مرشحة الاتحاد الأفريقي لعضوية مجلس الأمن تبعا لقاعدة المداورة في المناصب، ولم يكن التصويت عليها إلا “تحصيل حاصل”، لأنه لم يكن هناك منافس. هذه الحالة من الضجيج لن نراها تتكرر عندما ستشغل المغرب مثلا نفس المنصب عامي 2028 و2029، أو قطر ذلك المنصب عام 2047!! مناصب معروف شاغلوها على مدى نصف القرن المقبل في القارات المختلفة، ومع ذلك يصر النظام الجزائري على تشكيل الاستثناء البائس!!
أخر “معارك” النظام الجزائري داخل الاتحاد الأفريقي، ما جرى ويجري في انتخابات أعضاء مجلس السلم والامن الأفريقي، وتحديدا ممثل منطقة شمال أفريقيا من بين الدول الخمس ذات العضوية التي مدتها 3 سنوات (يشغله حاليا المغرب). فبينما مرت انتخابات باقي المناطق الأربعة بسلاسة، حيث انتخبت نيجيريا والكاميرون كمرشحين وحيدين عن غرب ووسط القارة، وانتخبت اسواتيني كممثلة لجنوب القارة بناء على قاعدة التناوب في المناصب التي يعتمدها تجمع دول المنطقة المذكورة، وحتى أثيوبيا التي فازت بالمقعد بعد منافسة مع الصومال ورواندا وجيبوتي، فلم يواكب ذلك أي صخب؛ نقول أنه بينما مرت الانتخابات داخل المناطق الأربعة دون أن تواكبها أي تغطية إعلامية استثنائية، نظرا لكون هذا الحدث ليس استثنائيا أصلا، أصرّ نظام العسكر الجزائري على تحويل نفس الحدث إلى “معركة مصيرية”، تجند من أجل كسبها جميع طاقات -وموارد!- البلاد، لاسيما وأن المنافس يتمثل في “العدو” المغربي، ويجب أن لا يسمح له بالفوز بجميع الوسائل. هذا المنطق المريض، أجّل حسم المرشح إلى الشهر المقبل، بعد أن تعذر فوز أحدهما بنسبة الثلثين المطلوبة. فترة انتظار ستملأها وسائل الإعلام الجزائرية بالعديد من الأخبار والتحليلات -والأكاذيب- بشكل يذكر بجميع “معاركها” السابقة، كعضوية مجلس الأمن والبريكس!
ومع تأجل حسم مقعد مجلس السلم والامن الأفريقي شهرا، تحول التركيز على “أم معارك” جديدة، ممثلة في اختيار منصب نائب المفوض الأفريقي، وهو مخصص لمنطقة شمال أفريقيا، ويتنافس خلاله أربع مرشحات يمثلن مصر والمغرب والجزائر وليبيا. ومنذ الآن يوجد في أدراج وسائل الإعلام الجزائرية خبران جاهزان للبث مع ظهور النتيجة: فوز القوة الضاربة “دليل على قوة ومكانة الجزائر في القارة”، أو المغرب يفوز “باستخدام الكولسة والرشاوى الانتخابية المفضوحة”، ولا يمكن لأحد أن يغير أي من الروايتين في هذه الدولة المعزولة عن محيطها والعالم!! لكن سنؤجل الحديث عن هذا الموضوع إلى مقال آخر، لنعود ونطرح السؤال المركزي: ما أهمية انتخاب الجزائر لعضوية مجلس السلم والأمن الأفريقي، حتى يجيش النظام كل هذه الموارد والترسانة الإعلامية خدمة له؟!
من المفيد التذكير أن الجزائر لم تكتف بعضوية مجلس السلم والأمن الأفريقي، بل هيمنت على منصب المفوض منذ 2003 وإلى غاية 2021 عبر كل من: سعيد جينيت، ورمطان لعمامرة، وإسماعيل شرقي؛ فماذا استفادت من هذه الرئاسة، وليس مجرد العضوية؟ وتحديدا في إطار معركتها الأوحد: العداء للمغرب ووحدته الترابية؟ لا شيء! فكل مفوضيها لم ينجح أي منهم -حتى في غياب المغرب عن الاتحاد الأفريقي- في فرض الاتحاد الأفريقي طرفا في النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، ولا حتى في تنظيم زيارة لممثلي مجلس السلم والامن إلى المنطقة، وبالتالي عجزت القوة الضاربة عن الإضرار بمصالح المغرب وهي تحتل الرئاسة وليس مجرد العضوية التي حولتها لأم المعارك!
وبنظرة على تركيبة مجلس السلم والامن الأفريقي، الهيئة المهمة في الاتحاد الأفريقي، لمعرفة آفاق نجاح الجزائر في الإضرار بالمغرب من خلالها، تطالعنا حقائق لا سبيل لإنكارها: العضوية موزعة على المناطق الأفريقية الخمسة بواقع عضو واحد عن كل منطقة لعضوية مدتها 3 سنوات (وهي التي تجري انتخاباتها حاليا)، وعشرة أعضاء آخرين لعضوية مدتها عامين، موزعين على الشكل التالي: 3 أعضاء لغرب أفريقيا، 1 عضو لشمال أفريقيا (تشغله مصر حاليا)، و2 عضوين لكل من المناطق الثلاثة الباقية. وعليه، سواء فازت بمقعد الثلاث سنوات الحالي المغرب أو الجزائر، فإن الطرف الخاسر يمكنه التنافس على مقعد السنتين بعد خمسة شهور من الآن. ثاني الحقائق أن القوة التصويتية للأعضاء ال 15 متساوية، ولا ميزة تصويتية للمفوض أو للرئيس الدوري للمجلس. وبمطالعة التوزيع الجغرافي، يبدو مؤكدا أن الجزائر لن تتمكن من حشد أغلبية داخل المجلس (8 أصوات) لأي قرار تطرحه ضد المغرب، لسبب بسيط وهو أن المقاعد الأربعة المخصصة لغرب أفريقيا ستذهب إلى حلفاء المغرب؛ نفس الأمر سينطبق على مقعد شمال أفريقيا (في حال احتلال الجزائر للمقعد الآخر)؛ وعدم قدرة الجزائر على حشد “أعداء” للمغرب في شرق ووسط القارة، باستثناء مقعد واحد -مشكوك فيه- من أصل المقاعد الستة (أوغندا في حالة الشرق)؛ مع ترجيح ذهاب غالبية المقاعد الثلاثة المخصصة لجنوب القارة لأعداء الوحدة الترابية المغربية (في المجلس المقبل احتلت اسواتيني حليفة المغرب مقعد أفريقيا الجنوبية للسنوات الثلاثة المقبلة. وعليه، ففي أفضل أحلام الجزائر يمكنها ضمان مقعد في الشمال ومقعد في الشرق وثلاثة مقاعد في الجنوب، بواقع 5 مقاعد من أصل المقاعد ال 15 في المجلس، وفي أسوأ سيناريوهاتها لن تتمكن من ضمان سوى 1-2 من أصوات جنوب القارة!! فلماذا كل هذه الجلبة إذا؟!
كخلاصة، يجب أن يعترف قادة الجزائر، عسكريين ومدنيين، أن الأحداث قد تجاوزتهم على صعيد القارة، وأن فرص الإضرار بمصالح المغرب الحيوية قد فاتت، وللأبد، على صعيد القارة السمراء، بغض النظر عن وجود المغرب أو عدمه في هذه الهيئة او تلك؛ فداعمو المنطق العدمي لجنرالات الجزائر في سعيهم للإضرار بالوحدة الترابية المغربية، تقلص عددهم الحقيقي إلى ستة على أفضل تقدير، من أصل 54 دولة في القارة، وهو عدد لا يمكنه بأي حال أن يمنح الأمل للجنرالات في ربح أي معركة دبلوماسية حالية أو مستقبلية. وعليه، فخروج جمهورية تندوف من الاتحاد الأفريقي هو حتمية اقترب استحقاقها، ولن يفيد إعلام الجنرالات تبرير الأمر “بالرشاوي المغربية”، ولن يكون أمام الجزائر سوى الانصياع للمنطق وتحسين علاقتها بالجار المغربي، بعد أن أيقنت بتعذر هزيمته. أما الاستمرار في ربط مستقبل الجنرالات بمستقبل مرتزقة البوليساريو فلن يؤدي إلا إلى جر الطرفين إلى هاوية الهزيمة!!