بقلم: هيثم شلبي
بعد أقل من شهرين على انتهاء الانتخابات الرئاسية، بدا واضحا الثمن الذي دفعه الرئيس عبد المجيد تبون من أجل البقاء في قصر المرادية لعهدة ثانية، وهو تسليم مقاليد الحكم لجناح الجيش، وتحديدا رئيسه الجنرال السعيد شنقريحة رئيس هيئة الأركان، ليحكم منفردا، بعد الإطاحة برجل الجنرال توفيق، الجنرال جبار مهنا من جهاز المخابرات الخارجية، بعد ظهور نتائج الانتخابات مباشرة، واستبداله “بموظف” موال لأبناء الرئيس تبون (رشدي فتحي موساوي) كل مؤهلاته أنه خدم ملحقا عسكريا في سفارتي الجزائر في كل من برلين وباريس.
وكما تقول حكمة العرب “ما أشبه اليوم بالبارحة”، كان الجنرال توفيق ضحية مرة أخرى لتحالف جناحي الرئاسة والجيش، الذي أطاح به شخصيا خلال عهدة الرئيس بوتفليقة والجنرال القايد صالح، وها هو الرئيس تبون والجنرال شنقريحة يطردان الجنرال مهنا، مع الإبقاء على رجل توفيق الآخر الجنرال عبد القادر حداد (ناصر الجن) في منصبه مديرا للأمن الداخلي، بعد أن قدم فروض الولاء والطاعة لسيده الجديد الجنرال شنقريحة. وكسداد للدين، كان لزاما على الرئيس تبون أن يمنح الجنرال شنقريحة منصبا سياسيا (داخل وزارة الدفاع) على غرار منصب نائب وزير الدفاع الذي ساعد الجنرال القايد صالح في عزل وتعيين من يشاء في أي منصب يشاء، دون الرجوع حتى لوزير الدفاع، الذي هو رئيس الجمهورية عادة. لكن شنقريحة نال منصب وزير منتدب هذه المرة، وهو أعلى قليلا من منصب نائب وزير، مما أهله بعد يومين فقط للإطاحة بخليفته المحتمل، رئيس القوات البرية الجنرال عمار عثامنية، وتعيين رجل ثقته الجنرال مصطفى سماعلي في المنصب، فكيف يفهم هذا التغيير الذي كان متوقعا لدى كثير من المطلعين على الشأن الجزائري؟
نظريا، شكّلت تصفية جناح المخابرات (للمرة الثانية) المحكوم من طرف رجالات الجنرال توفيق، مشهدا جديدا في النظام الجزائري، جعل السلطة -نظريا- مقسومة بين جناحي الرئاسة والجيش. هذا الوضع، يترك للطرفين خيار التعاون وفق مناطق نفوذ محددة، تماما كما في عالم كارتيلات المافيا، أو أن الهدنة القصيرة التي أعقبت تصفية جناح المخابرات، واقتسام تركته بين جناح الرئاسة (المخابرات الخارجية) وجناح الجيش (المخابرات الداخلية ومخابرات أمن الجيش) سرعان ما تنتهي، لتبدأ المعركة بين المعسكرين الموجودين، من أجل حسم السلطة نهائيا لصالح أحدهما، أو على الأقل التسليم لأحدهما بالكلمة العليا، مع بقاء “هوامش” من السلطة للجناح الثاني. وعليه، كان المطلعون على الشأن الجزائري ينتظرون الطرف الذي سيبدأ المعركة: إما إطاحة جناح الرئيس بالجنرال شنقريحة، ولديه من الأسباب ما يجعلها خطوة تلقى ترحيبا داخل الجيش قبل غيره، أو أن يقوم جناح الجيش “بقصقصة” أجنحة الرئاسة، وتحديدا العسكرية منها؛ وهنا يبرز إسمان لهما الأولوية: الجنرال عمار عثامنية قائد القوات البرية، وهو المنصب الذي يرشح شاغله لخلافة الجنرال شنقريحة، عندما يغادر منصبه لأي سبب؛ والجنرال بن علي بن علي، الأكبر رتبة وسنا في الجيش الجزائري، والذي يرأس الحرس الجمهوري، ويعتبر سندا للرئيس في مواجهة تغوّل شنقريحة.
وحتى يستطيع الجنرال شنقريحة، عزل وتعيين من يشاء فقد كان بحاجة إلى سيف “وزير الدفاع”، لذا، كانت مكافأته التي طلبها من الرئيس تبون هي هذا المنصب، حتى يؤمن نفسه ويقوي جناحه، وهو ما كان.
وبمجرد الحصول على منصبه الجديد، نفذ الجنرال شنقريحة أول ضرباته بإزاحة الجنرال عثامنية من موقع قيادة القوات البرية، وخليفته المفترض، وعين أحد رجاله الثقاة: الجنرال مصطفى سماعلي، الذي خلفه في العام 2018 على رأس الناحية العسكرية الثالثة. خلافة جعلته المرشح الأول للمنصب، بحكم اطلاعه على جميع “ملفات” الفساد المرتبطة برئاسة الجنرال شنقريحة للناحية العسكرية الثالثة على مدى 15 عاما (2003- 2018). ليبدأ مسلسل الترقب للخطوة التالية: إحالة الجنرال الثمانيني بن علي بن علي إلى التقاعد، إذا لم يكن مصيره السجن كمن سبقه من الجنرالات! وربما تمتد مقصلة الجنرال شنقريحة إلى مستشار الرئيس الأقوى، بوعلام بوعلام، ليصبح الرئيس تبون عمليا “عاريا” تماما من أي سلطة! وتصبح الجزائر تحت حكم جناح واحد، للمرة الأولى منذ زمن بعيد، جناح الجيش، وتحديدا هيئة الأركان.
باقي التغييرات المنتظرة التي يمكن أن يقدم عليها الجنرال شنقريحة، بعد أن ضمن خلافته، وعين المقربين منه في رئاسة الدرك الوطني (الجنرال يحيى علي أولحاج)، وحاز ولاء الجنرال ناصر الجن مدير المخابرات الداخلية، ومدير أمن الجيش الجنرال محرز جريبي، يمكن أن تشمل واحدا أو اثنين من قادة النواحي العسكرية، والحديث هنا عن الجنرال علي سيدان قائد الناحية الأولى، وربما الجنرال محمد الطيب براكني قائد الناحية العسكرية الثانية، حيث يشغل سيدان منصبه منذ 2018 (عينه الجنرال القايد صالح)، بينما لا يعلم بدقة مدى ولاء براكني الشخصي لشنقريحة. أما باقي النواحي العسكرية، فينظر إلى شاغليها بأنهم أهل ثقة الجنرال شنقريحة، ونقصد بهم: الجنرال الجديد ناصر الدين فضيل (القائد الجديد للناحية العسكرية الثالثة)، الجنرال عمر تلمساني (الناحية العسكرية الرابعة)، الجنرال نور الدين حنبلي (الناحية العسكرية الخامسة)، والجنرال محمد عجرود (الناحية العسكرية السادسة) رغم أن بعض الشكوك تحيط بهذا الأخير، نظرا للإخفاقات المسجلة في ناحيته التي مقرها تمنراست (على حدود مالي)، وكونه من تعيينات الجنرال القايد صالح (2018).
ورغم أن المشهد يوحي بإحكام الجنرال شنقريحة -أو قرب إحكامه- قبضته على النظام الجزائري برمته، فإن المفاجآت غير مستبعدة في نظام يحكم بطريقة كارتيلات المافيا، من جهة لأن الغالبية الساحقة لهؤلاء الجنرالات موغلة في الفساد المالي والأخلاقي وغيره من أنواع الفساد، ناهيك عن كون معظمهم في العقد السابع من العمر، بمن فيهم الخليفة المفترض للجنرال الثمانيني شنقريحة (رغم أن الإعلام الرسمي يكذب بشأن عمره ويقول إنه في عقده السادس).
خلاصة القول، فالرمال المتحركة التي تحيط بجنرالات الجزائر من كل حدب، وإدارتهم الفاشلة للشأن الجزائري العام، بسبب الضعف الشديد لرموز الواجهة المدنية، المتمثلة في الرئيس تبون ووزرائه وولاته، الذين لا يقل معظمهم فسادا عن جنرالاتهم، كلها تنبئ بسرعة تهيؤ الظروف لجولة ثانية من الحراك الشعبي، إذا لم يختر العسكر برئاسة الجنرال شنقريحة “الانتحار”، بافتعال مواجهة عسكرية مع المغرب، يعلم الكل نتيجتها سلفا!