بقلم: هيثم شلبي
مع إعلان مالي والنيجر وبوركينافاسو، الارتقاء بعلاقاتها الدبلوماسية إلى مستوى “وحدة كونفدرالية”، تحظى بسياسة خارجية موحدة وجيش موحد، وقريبا، عملة موحدة، وكذا القطيعة النهائية مع تجمع دول غرب أفريقيا “الإيكواس”، جاءت الهزات الارتدادية لهذا “الزلزال” في غاية العنف داخل أوساط النظام الجزائري، وقبلها في أوساط الجمهورية الفرنسية الخامسة، التي لا تكد تهضم خروج قواتها العسكرية المهين من الدول الثلاث، وهزيمتها الساحقة أمام غريمها الروسي. لكن ما هي مبررات هذا الرعب لدى المستعمر السابق، فرنسا؟ وما الخطر الذي يشكله هذا التكتل الجديد على النظام الجزائري؟ وما هي وسائلهما للرد على هذا التطور الخطير.
بداية، فقد جاءت الانقلابات العسكرية في دول الساحل الثلاث لتعلن ما كان منتظرا: نهاية النفوذ الفرنسي، أو -على الأقل- بدء العد العكسي لنهايته، لاسيما مع تكدس القوات الفرنسية المنسحبة في أكبر القواعد الفرنسية في أفريقيا، تشاد، والتي تشكل، مع موريتانيا، باقي منظومة دول الساحل الأفريقي. أفول النفوذ العسكري الفرنسي داخل الدول الثلاث، سرعان ما تبعه انتهاء النفوذ الاقتصادي لفرنسا في منطقة الساحل، وبداية النهاية لأخطر أدواتها: الفرنك الأفريقي لدول وسط وغرب أفريقيا، الذي يشعر الفرنسيون بالرعب من اهتزاز الأرض بشدة تحت أقدامه، لاسيما وأن هذا الفرنك يفوق في أهميته، بمراحل، أهمية التواجد العسكري في المنطقة. ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فإن الأخبار التي ترد من تشاد إلى دوائر صنع القرار الفرنسي، تنبئ بقرب الرحيل عن درة النفوذ العسكري الفرنسي، وبالتالي الخروج النهائي من منطقة الساحل، وهو ما يجعل مسألة الرحيل عن باقي الغرب الأفريقي مسألة وقت، ومرهون تحديدا بالتطورات داخل ساحل العاج، وبدرجة أقل، الكاميرون؛ هذا دون تجاهل ما يجري داخل الغابون وجمهورية الكونغو. ويدرك الجميع، داخل وخارج فرنسا، أن حرمان هذه الأخيرة من خيرات المنطقة المعدنية، لاسيما يورانيوم النيجر، لا يقاس في أهميته بحرمانها من مليارات الدول الخمس عشرة التي تعتمد الفرنك الأفريقي، والتي توضع في البنك المركزي الفرنسي، ويحرم منها أهلها.
وتراقب فرنسا بخوف شديد، التحركات الروسية المتسارعة على صعيد تشاد، والتي أتت بعد أن أحكمت الطوق حولها من خلال تواجد قوات الفاغنر أو الفيلق الأفريقي في كل من السودان وليبيا وأفريقيا الوسطى والنيجر. ولا يخفى أن عدد القوات الفرنسية المتواجدة في تشاد، يفوق حجم قواتها في مجموع دول القارة السمراء (ساحل العاج، الغابون، السنغال، وجيبوتي)، وبالتالي فخسارة هذا التواجد سيشكل ضربة قاصمة للوجود الفرنسي داخل مجمل مستعمراتها السابقة. ويزيد من قتامة المشهد، فرنسيا، الرغبة التي عبر عنها الرئيس السنغالي الجديد باسيرو ديوماي فاي، في التحرر من الوجود العسكري الفرنسي في بلاده، وإنهاء ارتباطها بفرنك غرب أفريقيا.
لكن ماذا بشأن الجزائر التي يعلم الجميع تبعية جنرالاتها لفرنسا، وائتمارهم بأوامرها؟ من البديهي أن أي تراجع للنفوذ الفرنسي المباشر، سيتتبعه بالضرورة تراجع أدوار أدواتها، والتي تكاد تقتصر على جنرالات الجزائر، وبعض الرؤساء “منتهي الصلاحية” في الغرب الأفريقي (الكاميرون، جمهورية الكونغو، وغينيا الاستوائية)، المتواجدون في حكم بلادهم منذ أزيد من أربعة عقود! وهي دول معرضة لشتى السيناريوهات الكارثية بالنسبة لفرنسا بعد فشلها في تجديد الهياكل التابعة لها في هذه الدول، مما جعلها تراكم سخطا جماهيريا عظيما فيها تجاه فرنسا. وعليه، فالجزائر التي تشترك بحدود تمتد لآلاف الكيلومترات مع النيجر ومالي وليبيا، وبسبب تبعيتها العمياء لفرنسا، ووجهت وستواجه بعداء هذه الدول، وهو ما بدا واضحا من خلال توتر علاقاتها مع النيجر ومالي والرجل القوي في شرق ليبيا الجنرال خليفة حفتر. وإذا علمنا مدى هشاشة الحدود في مختلف الدول التي تشترك في التواجد داخل الصحراء الكبرى، وعجز عسكر الجزائر عن حماية حدوده مع هذه الدول، تجد الجزائر نفسها أمام تحد أمني وعسكري خطير، في منطقة تعاني مختلف مظاهر الخلل الأمني، بسبب انتشار شبكات التهريب الدولية في البشر والسلاح والمخدرات، وكذا ما يسمى بالحركات الجهادية، ناهيك عن قوات ميليشيا فاغنر. ورطة مرشحة لمزيد من التفاقم، ولن يفيد معها محاولات “التذاكي” اللفظي للمسؤولين الجزائريين، لعلم مختلف دول الجوار بالدور “الوظيفي” المنوط بجنرالات الجزائر من قبل فرنسا، وكونها “مخلب القط” في الرد الفرنسي على هذه الدول، نتيجة خروجها من “بيت طاعتها”.
من جهة أخرى، فالجانب الأهم بالنسبة لعسكر الجزائر يتعلق بموقف دول جوارها من “مغربية الصحراء”، وعلاقاتهم الحميمة مع عدوهم الأزلي “المغرب”. صحيح أن النيجر ومالي لا تزالان استثناء من بين الدول المعترفة “رسميا” بالسيادة المغربية على الأقاليم الجنوبية للمملكة، لكن هذا الواقع بصدد التحول للأبد بطريقتين: الأولى موقف شريكهما الثالث في “كونفدرالية دول الساحل” بوركينا فاسو، التي تمتلك قنصلية في الأقاليم الجنوبية، وبالتالي فامتلاك هذا الاتحاد الجديد لسياسة خارجية موحدة سيكون في صالح المغرب، بدعم من الوسيلة الثانية المتمثلة في المشروع الملكي لربط دول الساحل بالمحيط الأطلسي عبر ميناء الداخلة المغربي الصحراوي، وهو المشروع الذي لقي ترحيبا عارما من قبل الدول الثلاث وشريكها التشادي. فقدان الجزائر لهذه الاعترافات بصنيعتها البوليساريو، سيقلص مساحة الدعم الأفريقي لطروحاتها، ويعجل بطرد “جمهورية تندوف” من صفوف الاتحاد الأفريقي، وهو التطور “الكارثي” من وجهة نظر جنرالات الجزائر.
أبعد من ذلك، فالجزائر غير العضوة في أي تكتل جهوي أفريقي، والتي تعتبر استثناء من بين الدول الأفريقية ال 54 في هذا الأمر، تجد نفسها في حصار خانق يتناقض مع دعايتها الفاشلة التي تروج لكونها “القوة الضاربة” في أفريقيا. ويزيد من سوء الوضع بالنسبة لجنرالاتها، أن علاقاتها مع جميع دول جوارها، القريب والبعيد، مرشحة لمزيد من التدهور، ليس مع ليبيا والنيجر ومالي فحسب، بل ومع موريتانيا والسنغال وباقي دول الغرب الأفريقي، التي تحتفظ بالمقابل بعلاقات استراتيجية حميمة مع المملكة المغربية، وتكاد تجمع على الاعتراف بمغربية الصحراء، أو على الأقل، ترحيبها بمقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية. وحتى بالنسبة للجار اليتيم الذي لا يزال يدور في الفلك الجزائري، ونعني به تونس، فموقفه مرشح للانقلاب في اليوم التالي لمغادرة الرئيس قيس سعيد لقصر قرطاج!
أخيرا، ما الذي يملكه جناح الرئيس ماكرون وأتباعه في الجزائر تجاه هذا الوضع القاتم؟ يمكن القول بثقة أن رد الفعل الفرنسي ينحصر في أمرين لا ثالث لهما: المراهنة على انقلابات عسكرية موالية تعيد توجيه بوصلة هذه الدول نحو الإليزيه؛ أو المراهنة على تصعيد حرب الجماعات “الجهادية” ضد هذه الدول مستغلة الأوضاع الصعبة التي تعيشها، وهشاشة قدراتها العسكرية. رهانان تقف لهما روسيا بالمرصاد، ناهيك عن، وهذا هو الأهم، تجذر العداء الشعبي لفرنسا في مختلف دول القارة السمراء.
كخلاصة، ينتظر ان تجلب الأيام المقبلة معها تطورات دراماتيكية، من المؤكد أنها ستعيد تشكيل خارطة النفوذ العالمي في مجمل غرب القارة، مع نزوع متزايد لهذه الدول وشعوبها للتخلص من هيمنة المستعمرين القدماء والجدد، سعيا وراء امتلاك مصيرها وحرية التصرف بثرواتها، وتقديم حياة أفضل لشعوبها، وهو ما تقدم فيه المغرب تجربة “مشرقة” قابلة لأن تكون نموذجا مرشدا لهذه الدول، في إطار استراتيجيتها للتعاون جنوب- جنوب.