بقلم: طالع السعود الأطلسي
إنه إعصارٌ اندلع هُبوبًا على الرُّقعة العربية من هذا العالم، له جذورٌ في “اتفاقيات سايكس بيكو”، ولكنه اشتدَّ مع بداية عشرينات هذا القرن وازداد حدة في غزة، ضد القضية الفلسطينية بتاريخها وجغرافيتها، إلى أن حلَّت عيْنُ الإعصار على سوريا، لتدمير كل مُقوِّمات كيانها. وهو ما تُمارسُه إسرائيل علانية وبكثافة، وسبْق إصرار، نسْفًا للأدوات السيادية العسكرية السورية.
هو إعصارٌ سياسي تخلَّق في مُخطَّطات دوْلية، لأكثر من ثلاثين سنة، لتلْغيم التاريخ بأوجاع الجغرافيا، فيما يُسمّى إعلاميًا “الشرق الأوسط”. والهدَف إعادة تشكيل الرُّقعة العربية بإزميلٍ غربي (الجزء من الغرب الذي يعادي الشرق في ضَغينَة تاريخية) يأكل مَلامح عراقتها ويطوِّع لفائدته مُقدَّراتها وقُدُراتها.
ما يجري وسط الرُّقعة العربية لا يحتاج إلى توصيف؛ هو صارخٌ بدمويته ووحشيته وعنفه السياسي. الإعصار له ارتدادات عاجلة، محسوسة أو آجلة، مُتوَقَّعة في جناحيْ أقصى شرقها (دول الخليج أساسًا) وأقصى غربها (دول شمال أفريقيا أو المغرب الكبير).
في الجناح الغربي للرُّقعة العربية في هذا العالم، قيادة الجزائر توجد في حالة شُرود. هي لا ترى العالم كما هو، بل لا تراه إلا من خلال عدائها للمغرب، ولا يهمُّها أن تضيِّع مَصالحها في غشاوة ذلك العداء. أما أن ترْقى إلى رصد مُؤشِّرات التحوُّلات الانقلابية في العالم، وأساسًا عربيا وأفريقيّا، فهي غافلة عن ذلك، وغيرُ مُكترثة بِه، طالَما هي مَهوُوسة بحِقدِها على المغرب.
الحقدُ ضدَّ المغرب يسْكن الأنا السُّفلى والعُليا معًا لقيادة الجزائر، حتى في كلِّ أمرٍ جزائريٍ خالصٍ وبالأحرى في القضايا الجيوستراتيجية للمنطقة.. فوبيا المغرب، هي حالة نفسية وعُقدَة شعورية مُزمنة، تتبدَّى في الصغائر الإعلامية الجزائرية، وتكادُ تكون يوميًا وتشمل كل المجالات، من السياسة إلى الرياضة إلى الطبخ إلى اللباس، وطبعا كل ذلك من جرعات كبيرة من الأخبار الزائفة والاختلاقات. والمعضلة أنها تسري في الممارسة السياسية لقيادة الجزائر وأدواتها التي جعلت من عدائها للمغرب مُبرِّرَ وجودها وعِلَّته، وأسكنته في سياساتها الدبلوماسية والأمنية.
القيادة الجزائرية نجَحت في وضع الجزائر في حالة عدَاء، أو أقلُّه في حالة توتُّر، مع الجنرال خليفة حفتر، الفاعل الهام في الوضع الليبي، ومع دُوَل الساحل والصحراء الأفريقية، في جنوبها. وواضحٌ أنَّ موريتانيا تعتريها أعراضُ النفور من القيادة الجزائرية، فضلا عن الغضبة الضارية لتلك القيادة من إسبانيا وفرنسا، بعد انحيازهما لمشروعية الحق الوطني المغربي، ووصلت مع فرنسا إلى حد استدعاء سفير فرنسا في الجزائر لمساءلته في شأن ما أسمته أعمالا عدائية قامت بها المخابرات الفرنسية ضد الجزائر. ويبدو أن التوتر في اتجاه التصعيد قضية للمتابعة.
تبدو هواية القيادة الجزائرية المفضلة هي توسيع جبهات التوتر حولها، بينما تواصل عداءها للمغرب بما توحي به من استعدادها لخوض الحرب ضده، وبما اختلقته مخابراتها من زعم “جمهورية الريف”، بعصابة من المُحتالين الذين نبذهم نُشطَاء الجمعيات المغربية في جهة الريف، داخل المغرب وخارجه، ومن تجنيدٍ للذُّباب الإلكتروني بمواقع التضليل والزيف ضدّ المغرب.
قيادة الجزائر حوَّلت مُخابراتها إلى مُجرَّد آلة تآمر ضد المغرب ولاستعداء الجيران، وأفقدتها القُدرة على إنتاج التوصية الدقيقة للقيادة المستمَدّة من التحليل العميق للأوضاع حوالي الجزائر ولمصالحها فيها.
قبل أسابيع قليلة كان الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون في حالة يقينٍ وهو يُدافع عن نظام بشار الأسد “بأنه آخر نظام يمكن أن يسقُط”. وسقَط النظام بُعيْد تلك الأسابيع من ذلك اليقين. ضَلَّلت المُخابرات الجزائرية الرئيس بمعلومات طائشة وعمياء، أو هوَ ضلَّل نفسه بثقته الزائدة في ثقافته، تلك التي خانته مرارًا وتنَدَّر الناس بها كثيرا. في نفس السياق أضاف الرئيس “أن الجزائر لن تسقُط إلا بعدَ سقوط النظام السوري”، وطبْعا كان مُقتنعا بأن نظامه آيل إلى السقوط.. فقط لن يكون هو الأول. تفضل الآن، لقد سقط الأول.
هناك فوارق كثيرة بيْن وضعية نظام حزب البعث السوري ونظام حكم الجنرالات في الجزائر، لعلَّ ما يجمعها هو قابليتهما للسقوط، بشهادة الرئيس تبون نفسه بصرف النظر عمّن الأول ومن الثاني، وبصرف النظر عن أسباب سُقوط دولة البعث في سوريا، والتي من الواضح أن في سقوطها عوامل توظيف التآمر الخارجي للإرهاب “المُتأسلم”، والفرق واضح بين الأوضاع المأزومة لجنرالات الحكَّام في الجزائر، داخليا وخارجيا.
أحد عوامل قابلية كِلا النِّظامين للسقوط، هو ما انْكشف للعالم من هَوْل الهشاشة التي كان النظام السوري يؤسس عليْها حُكمه. ما إن وصل بشار الأسد إلى موسكو حتى غادرت نُخبة الحكم والمجتمع “ثقافة النظام”. ارتفعت أصوات التخلص من الولاء للنظام وذهبت إلى القول في بَشَّار “ما لم يَقله الحطيئة في نفسه وصحبِه”. أصوات أركان النظام نفسُه من حجم بثينة شعبان المستشارة السياسية والإعلامية للرئيس بشار، والسفير الجعفري في الأمم المتحدة، وجمهرة من رموز الثقافة السورية، الفنية والإعلامية والأدبية. والأنكى أن حزبَ البعث، الذي يوصَف في الدستور بكونه “قائد الدولة والأمّة”، حلَّ نفسه طَواعية، وسرَّح مُوَظَّفيه وسلَّم مَقرّاته ومُمْتلكاته، العينية والنقدية، إلى وزارة المالية.
في الجزائر، خُلوُّ نسيج النظام من الأواصر الشعبية ومن دعامات نخبة السياسة والثقافة، واضحٌ من يوم النظام هذا، وسيكون من أسباب سُقوطه، وليس من مُخلَّفاته.
من يُفهِم نظام جنرالات الجزائر أن هذا الإعصار الذي يجتاح البلاد العربية لن تقف ارتداداته عند الشرق الأوسط؛ هي زاحفة على الجغرافيا العربية بكل تضاريسها، وتستدعي الوعيَ بها للتصدي لها. أوّلا، بدُوَلٍ قويَّة مُتحسِّسة لشعوبِها ولمصالحها في التقدم التنموي الشامل، لأنه المُنتج للقوَّة الفاعلة للدوَل وليس ازْدِراء الشعوب وتبذير المال العام في التسلُّح غير المُجدي وفي التآمر الفاشل في مَعاركَ مُختلقة لا قابلية لها للحياة.
مع الملك محمد السادس، سياسة المغرب قائمة على مبدأ ثابت هو التفاعل والتضامُن مع الشعوب ومع الدول في دوائر الجيرَة المغربية، مَغاربيا، مُتوسطيا، عرَبيا وأفريقيّا. ولم يَمَل ملك المغرب من دعوة الجزائر إلى هذا المسار النافع لها وللمغرب. والمغرب في هذا التوجُّه جادٌّ ويُقرن القوْل بالعمل، كما هي حالة توجُّهه الأفريقي، في العلاقات الثنائية ومُتعدِّدة الأطراف.
مؤخرا فقط، دشّنت سلطات النيجر العمل في العاصمة نيامي بمُوَلِّد لإنتاج الطاقة الكهربائية، هِبةً من المغرب، وأطلقت عليه اسم “الملك محمد السادس”. المغرب هُنا يُثبت أنّ صداقته للنيجر ليست مجرد كلمات إنشائية عاطفية، صداقتُه مُنجزاتٌ ملموسة، وذات أثر اجتماعي فعلي.
مؤخرًا أيضًا، يضع المغرب المبادرة الملكية الأطلسية في المَسار العمَلي بما فيه تأطيرُها الدِّراسي. عمليًا، تلك المبادرة التي أطلقها العاهل المغربي لفائدة التكامُل الاقتصادي والتعاوُن التنموي بين دوَل ساحل المُحيط الأطلسي ودُوَل السّاحل والصحراء المجاورة لها، أضحى لها مُنطلَق في أنبوب الغاز بين نيجيريا والمغرب، ويهمُّ 13 دولة مُساحِلة للمحيط وخمس دُوَلٍ غيرُ أطلسية. هو أنبوبٌ بفائض قيمة تنموية لعموم شعوب تلك الدوَل، وقد تقدّمت أشغال إنجازه عمليًا. في الآن نفسه كانت تلك المبادرة الملكية، الرافعة لشعار التعاوُن جنوب – جنوب، موضوع تباحُث وتدارُس في مُؤتمر “الحوارات الأطلسية” بالرباط، بمشاركة فاعلين حاليين أو سابقين في القرار الأفريقي والدولي. ما يعني أن تلك المُبادرة جدٌّ في جدٍّ، وقد وُضعَت على سِكّة الإنجاز باقتناعٍ وإدارةٍ سياسييْن، وتستقطبُ حوْلها التمَلُّك النظري والسياسي والعملي للفاعلين في القرار الأفريقي والدولي.
تحوُّلات جيوستراتيجية نوْعية تخترق الوعي الدولي، وضمنه امتداده العربي أو لنقل مركزه العربي. المغرب استبْصر هذه التحوُّلات منذ عقدين، حصَّن نفسه ضدّ إعصارها ومنَّع كيانه بتجديد شحنات طاقاته الدّافعة، بكل ما هو ماض فيه من مَسارٍ تحديثي وإصلاحي، وتثبيتٍ للروافع التنموية في المُستويات الاجتماعية والاقتصادية، الديمقراطية والسياسية.
تربح قيادة الجزائر كثيرًا إذا هي حسَّنت آليات قراءتها لهذه التحوُّلات الدراماتيكية في محيطنا العربي، وإذا هي تخلَّت عن سلوكيات التآمر وانْفتحت على نداءات المغرب بالتعاون والتضامن.
عن صحيفة “العرب” اللندنية