بقلم: هيثم شلبي
مبدئيا، يمكن تفهم حالة الاستياء او الخوف من صعود أي تيار سياسي “متطرف”. يستوي في ذلك اليمين او اليسار (كما يجري في فرنسا حاليا)، أو الإسلاميين (كما هو حال حركة طالبان في أفغانستان) أو القوميين (كما في الهند ومناطق أخرى)، وغيرها. لكن ما يثار حاليا على هامش التقدم الواضح للتجمع الوطني اليميني الفرنسي، الذي يصفه خصومه بالمتطرف، يحتاج إلى بعض التوقف والنقاش الهادئ، للفصل بين ما هو حقيقي، وما هو مضخم من قبيل خصوم أقصى اليمين الفرنسي، والتمييز بين مصدر الخطورة على صعيد فرنسا، ومصدره من قبل المهتمين بهذا التطور عالميا، على الصعيد الأوروبي، وباقي مستعمرات فرنسا السابقة، وتحديدا بالنسبة لنا كعرب ومسلمين.
ومن المهم هنا، ان نوضح في البداية، أن رحلة صعود اليمين القومي أو الموسوم بالتطرف هي ظاهرة أوروبية -إن لم يكن عالمية- لم تبدا مع ما يجري في فرنسا حاليا، حيث تحقق هذه الأحزاب صعودا مضطردا داخل مختلف دول القارة العجوز، وهو ما تعكسه نتائجهم في البرلمان الأوروبي، وآخرها ما جرى قبل أسابيع. كما أن من الواجب أن نسجل أن “تطرف” هذه الأحزاب اليمينية، لا يبرر وضعها في سلة واحدة. وكمثال، فهذه الأحزاب اليمينية “المتطرفة” ترفض ضم النازيين الجدد في ألمانيا ضمن صفوفها. كما ينبغي تسجيل أن مثل هذه الأحزاب تحكم فعليا في عدد من الدول الأوروبية كإيطاليا والمجر والنمسا وهولندا وغيرها، وبالتالي، فإن الحكم على سلوكها يجب أن ينتقل من خانة “النظريات الافتراضية” التي تبني أحكامها على شعاراتها وأيديولوجياتها، إلى “الممارسة السياسية الواقعية” التي تحكم عليها من خلال ما قامت به في الدول التي تحكم فيها هذه الأحزاب، وتحديدا في أوروبا. وهنا، نسجل أن التحذير من صعود اليمين الذي وصف “بالفاشي” في إيطاليا، لم يجد سندا فيما اتخذته حكوماتها من قرارات، لا على الصعيد الداخلي، او الأوروبي، أو العالمي. بل إن من الإنصاف الاعتراف، أن موقفها من المستعمرات الأوروبية السابقة، كان أكثر تقدما واعتدالا من نظرائها من الأحزاب “الوسطية” التي تحكم غالبية الدول الأوروبية. وهنا نستحضر السجال بين إيطاليا (جورجيا ميلوني “اليمينية”) وفرنسا (إيمانويل ماكرون “الوسطي”) حول مسؤولية الاستعمار عن مآسي القارة الأفريقية، والتي تعتبر أبرز الأسباب وراء موجات المهاجرين الأفارقة غير الشرعيين إلى “الفردوس” الأوروبي.
إن الغوص في الجدل الداخلي الأوروبي حول هذه الأحزاب، سيقودنا إلى دروب متشعبة يختلط فيها ما هو ثقافي واقتصادي واجتماعي وسياسي، وهو ما يتجلى في الموقف من المثلية والعائلة والمهاجرين والبطالة والعولمة والتبعية للولايات المتحدة (وتاليا الموقف من روسيا)، وكذا قضايا كالإسلاموفوبيا ومعاداة السامية وغيرها؛ وهو ما ليس هدفا لهذا المقال بأي حال. لذا فهدفنا هو طرح بعض الأسئلة الإشكالية التي تضيع في زحمة الصخب الداخلي الأوروبي، من موقعنا كعرب ومسلمين وعالم ثالث اكتوى بويلات هذا الاستعمار، ولا يزال.
إن العنوان الأبرز الذي يقفز إلى الذهن عند متابعة هذا النقاش الأوروبي هو الموقف من “الآخر” سواء كان مهاجرا غير شرعي؛ أو من ضمن العمالة الرخيصة أو عالية التكوين؛ أو حملة الجنسيات الأوروبية من أبناء الجيلين الثاني والثالث، وكلها فئات تخصنا بشكل مباشر. وهنا، يحق لنا أن نقرر بدون كثير “فلسفة”، أنها سجالات في أفضل حالاتها “انتخابية”، وفي أسوأها مبنية على ديماغوجية مقصودة ومضللة تعتبر افرازا لحقبة العولمة “وتغوّل” الاقتصاد الليبرالي “المتوحش”. بمعنى آخر، فهو سجال مجتمعي بين “ضحايا” هذا النموذج “النيوليبرالي” المتوحش، من أوروبيين ومهاجرين، داخل أوروبا نفسها، ووسط العالم الثالث الذي تتزايد فواتير استباحته يوما بعد آخر. وسواء كان ذلك بشكل واع ومدرك أم لا، فإن أيديولوجيا أقصى اليمين تجاه المهاجرين هي في أفضل حالاتها لعب انتخابي على وتر الخوف من الآخر، وفي أسوأها كلام “فارغ” لا يمت للواقع الحقيقي بصلة، حيث تدرك جميع دول أوروبا على اختلاف أيديولوجيات أحزابها الحاكمة، استحالة الاستغناء عن المهاجرين، أو حتى الحد من استقبال مزيد منهم، في قارة تعاني من شيخوخة مزمنة، ولا يمكنها الاستمرار بدون هذه الدماء الشابة التي تغذي اقتصاداتها. كما أن “خرافة” النقاء العرقي، هي أكثر استحالة من الغول والعنقاء، بعد عقود من الاندماج بين سكان مختلف دول القارة وموجات الهجرة المتتالية على مدى أكثر من قرن!
وبالعودة لفرنسا، فالأمانة تستدعي الإقرار باستحالة اعتبار الرئيس ماكرون وحزبه وتياره بأنهم وسط أو يمين الوسط في هذا البلد، حتى يمكن اعتبار التجمع الوطني يمينا متطرفا. فمواقف وسياسات الرئيس ماكرون ووزيره في الداخلية دارمنان، يستحيل فصلها عن أيديولوجيا اليمين المتطرف بأي حال. وعليه، فصعود هذا التيار أو ذاك داخل فصائل اليمين لا يمكن أن يعني انتقالا من وضع مريح إلى آخر كارثي، بالنسبة لنا على الأقل. أما الحرب الإجرامية على غزة، ومع استثناءات قليلة، وتحديدا في بدايتها، فلم تترك أي فارق واضح بين الحكومات الأوروبية اليمينية أو الاشتراكية أو الوسطية، حيث أشهر الجميع سلاح “معاداة السامية” تجاه كل من يندد بالإجرام الإسرائيلي في حق المدنيين. وللتذكير، فحكومة ألمانيا “الاشتراكية” مارست دعما غير محدود لهذه الحرب، وتقييدا مخجلا ضد معارضيها، مثلها مثل حكومة فرنسا “الوسطية”، وحكومة المجر “اليمينية”. وهو نفس الموقف من المسلمين وحقهم في ممارسة مختلف شعائرهم ومعتقداتهم، والذي يجد تضييقا، إن لم نقل حربا، من مختلف حكومات هذه القارة التي تدعي الدفاع عن التنوع وحقوق الإنسان.
وحتى لا نكتفي بنقد “الآخر الأوروبي”، فإن الأمانة الأخلاقية تقتضي الاعتراف بأن الموقف العنصري من المهاجرين ليس سمة يمينية أمريكية (ترامب) أو أوروبية أو أسيوية، بل هو مرض يطال الكثير من حكومات ومجتمعات العرب والمسلمين أنفسهم. وما ممارسات النظام الجزائري والتونسي وغيرهما تجاه المهاجرين الأفارقة، إلا “مدرسة” يعجز اليمين المتطرف الأوروبي عن تقليد ومحاكاة الكثير منها! نفس الأمانة تقتضي إدانة ممارسات أنظمة قمعية تجاه مواطنيها، وتجريدهم من أبسط حقوقهم الإنسانية الاقتصادية والاجتماعية، بطريقة تجعلهم يلقون بأنفسهم في “قوارب الموت” بحثا عن “جحيم” أقل عنصرية وسوءا في أوروبا. ولعل المثال السوري صادم في تدليله على ما نقول، وهو نفس ما نشهده في السودان والعديد من الدول العربية والأفريقية والآسيوية المنكوبة بهذه الأنظمة.
كخلاصة، فكثير من أوجه النقاش الدائر أوروبيا حول صعود أقصى اليمين أو اليسار في هذا البلد أو ذاك، والذي يتشابه في كثير من سياساته مع تيارات الوسط فيها، تخص مواطني وسكان هذه البلدان، بأكثر مما تخصنا. وما يعنينا هو عدم السماح لهذا النقاش بأن يحرف انتباهنا (كدول مصدرة للهجرة الشرعية وغير الشرعية) عن مسؤولية أنظمتنا عن تحويل بلداننا إلى دول “طاردة” لمواطنيها، سواء منهم المتعلمين والمتخصصين أو من الفئات قليلة أو معدومة المهارة. ناهيك عن مواقف هذه الدول الغربية عموما من القضايا التي تهمنا؛ ومن دعمهم اللامحدود “لدكتاتوريينا”؛ ونهبهم المنظم لخيراتنا؛ وتدمير مجتمعاتنا عبر المساهمة الكارثية في التغير المناخي؛ ومحاولات فرض منظومات قيم غريبة عنا بدعوى “عالميتها”! وللحديث صلة.