هيثم شلبي
لا يزال البلاغ الصادر عن اجتماع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون ورئيس أركانه الجنرال السعيد شنقريحة، وبعض الوجوه المدنية التي تحتل مناصب عليا -دون أن يكون لها أي قيمة-، والذي تقرر خلاله اختصار ولاية الرئيس تبون ثلاثة أشهر، وتنظيم انتخابات مبكرة في سبتمبر القادم بدل ديسمبر، تسيل الكثير من المداد، وإن كانت بالنسبة للكثيرين خطوة بدون معنى، استنادا إلى أن هذه المدة المختصرة ليست كافية لعمل شيء لصالح أو ضد الرئيس تبون. كما أن اختيار شكل الإعلان عن تقديم موعد الانتخابات، عبر اجتماع يكاد يخلو من القيادات العسكرية، ويضم كما كبيرا من الشخصيات “خفيفة الوزن”، لم يضف للإعلان أي قيمة؛ حيث كان مجرد بلاغ من رئاسة الجمهورية كافيا لإيصال المعلومة للمواطنين الجزائريين، ولم يكن أحد ليثير اعتراضا من أي نوع. لكن معرفة القاصي والداني لطبيعة النظام العسكري، وموازين القوى التي عادة ما تتوزع ما بين “أثافيه” الثلاثة (معسكر أو جناح الرئاسة، معسكر المخابرات، معسكر هيئة الأركان)، وتتفاوت في قوة التأثير حسب من يشغل موقع القيادة في كل من هذه الأجنحة، تجعل الجميع متفقا بأن تقديم أو تأخير الانتخابات هو حصيلة الشد والجذب -أو الاتفاق- بين معسكري الجيش والمخابرات، وتم إبلاغ الرئيس تبون بالقرار من أجل إذاعته ليس إلا، بعد أن بلغ جناح الرئاسة في عهده أسفل دركات الضعف، بشكل لم يشهده المنصب منذ الاستقلال، ولا حتى في عهد المجلس الرئاسي بداية العشرية السوداء!
وهنا يثور تساؤل مبدئي: هل تقديم الانتخابات هو دليل اتفاق بين معسكري الجيش والمخابرات، أم مؤشرا على تصاعد الخلاف بينهما؟! وإن كانت كلا الإجابتين تؤشر على درجة الضعف والتخبط التي بلغها النظام بمختلف أجنحته. ولا يحتاج المرء لكبير عناء، ودون حتى امتلاك قدرات تحليلية خارقة، في ترجيح أن فترة الشهور الثلاثة المختصرة هي دليل خلاف لا تخطئه عين، حيث أن الاتفاق بين المعسكرين يقتضي احترام الآجال الطبيعية للانتخابات، لاسيما مع عدم وجود فارق حقيقي بين الموعد الأصلي والموعد المقترح. لكن، ما هي القضية الخلافية الأبرز بين الجناحين الذين يطير بهما النظام الجزائري برمته، والذي يتطلب استمرار هذا النظام أن يكونا متفقين؟ الإجابة البديهية هي الاختلاف على التجديد للرئيس الأضعف في تاريخ الجزائر عبد المجيد تبون. ضعف الرئيس -على الأغلب- هو العنصر الذي يجعل أحد الجناحين (هيئة الأركان) يدافع عن التجديد له، بينما يدفع نفس العنصر (أي ضعف الرئيس) الجناح الآخر (المخابرات) إلى معارضة التجديد له في عهدة ثانية، وضرورة استبداله بشخصية تمتلك حدا أدنى من المصداقية، والكاريزما، والقبول الجماهيري -إن أمكن-. لكن ما هي مبررات كل طرف من أقطاب النظام الجزائري لاتخاذ هذا الموقف من الرئيس تبون؟
يقال عند العرب: “ما أشبه اليوم بالبارحة”، وكذا يتداول العالم مقولة “التاريخ يعيد نفسه” والتي أكملها كارل ماركس بإضافة ذكية: “مرة على شكل مأساة، ومرة على شكل ملهاة”. وسواء كانت هذه المقولات صحيحة أم لا، لكن ما يجري في الجزائر من خلاف بين القوى العسكرية المؤثرة في النظام، حول التجديد للرئيس، سبق وعاشه البلد في عهدة بوتفليقة الثانية عام 2004، عندما وقف الجنرالان خالد نزار ومحمد العماري (جناح الجيش) ضد هذا التجديد، بينما سانده الجنرال توفيق (جناح المخابرات)، وكانت نتيجته “وفاة العماري” واستبداله بأحمد قايد صالح. كما تكرر مرة أخرى، لكن بشكل عكسي هذه المرة عندما جاهر الجنرال توفيق بمعارضته للعهدة الرابعة لبوتفليقة عام 2014، مقابل تمتع الرئيس بدعم الجيش بقيادة الجنرال القايد صالح. ومرة أخرى، كانت النتيجة “تفكيك” إمبراطورية توفيق وعزله من منصبه، وتحكم القايد صالح بكل مصادر القوة في النظام. والآن، يتكرر نفس المشهد -أو نراقب مشهدا مشابها- يقف فيه الجنرال شنقريحة مؤيدا للرئيس الضعيف، ويقف رجال الجنرال توفيق -الذي استعاد معظم نفوذه- في المخابرات، وعلى رأسهم الجنرال جبار مهنا على رأس قائمة المعارضين لاستمرار تبون، والمدافعين عن ضرورة استبداله. لكن ما هي مبررات الخلاف على شخص الرئيس تبون؟
يؤمن الجنرال توفيق، ورجاله بالتبعية، بأن أفضل ضامن لاستقرار النظام الجزائري، واستمرار هيمنة الجنرالات عليه، هو وجود رئيس “قوي”، يحظى بجماهيرية مقبولة، ويدين بالفضل في وجوده للجنرالات، وبالتالي يحافظ على استمرار مصالحهم. ويمكن اعتبار هذه العقيدة بأنها عقيدة “جنرالات فرنسا”، التي تكونوا عليها في المدرسة الفرنسية “الأم”، والتي لطالما قامت بانقلابات “استباقية” ضد “دكتاتورييها” المفضلين، حتى لا يقوم بهذا الأمر قوى أخرى. وهكذا كان هؤلاء الجنرالات هم من جلب بوضياف رغم علمهم بكاريزمته، وهم من جلبوا بوتفليقة، قبل أن يختلفوا على استمراره، نتيجة هذه الكاريزما بالذات بالنسبة لنزار والعماري، ونتيجة عجزه عن ممارسة مهامه بسبب الجلطة الدماغية، وسيطرة الثنائي القايد صالح- السعيد بوتفليقة عليه. وفي المرتين كان خيار جنرالات فرنسا هو علي بن فليس رئيس الوزراء الأسبق، الذي لا يزال كثير من الجزائريين “السذج” يعتبرونه معارضا، رغم كونه “صنيعة توفيق”، وهي المفارقة التي تتكرر في حالات لويزة حنون ونور الدين مقري وغيرهما من “قيادات المعارضة”. أما بالنسبة للجنرال شنقريحة، فإن وجود الرئيس الضعيف تبون، تحت بصره وسيطرته، هو الضمانة الوحيدة لديه حتى لا يلقى مصير القايد صالح (الاغتيال)، أو توفيق (العزل)، أو أزيد من أربعين جنرالا يقبعون في السجون حاليا.
لقد بدا لافتا تمهيد وترويج اثنين من “زعماء المعارضة” (لويزة حنون وعبد القادر بن قرينة) لفكرة تأجيل الانتخابات الرئاسية، بإيعاز من جناح المخابرات على الأغلب، وهم من رد عليهم بلاغ الرئاسة عندما أذاع قرار تقديم موعد الانتخابات (ولم يكن موجها لجهات خارجية بأي شكل من الأشكال). وسنسمع خلال الأيام المقبلة تصريحات مرحبة بالخطوة من قبل الأحزاب المقربة من رئاسة الأركان، أو المؤيدة للرئيس تبون. لكن هل يحل هذا الأمر المشكلة المتمثلة في صراعات أجنحة المؤسسة العسكرية، والتي تهدد استمرار النظام الجزائري برمته؟! الإجابة الواضحة حتى الساعة أن الصراع بين شنقريحة ومهنا (ومن ورائه توفيق) في طريقه للتصاعد، لاسيما مع محاولة كل طرف الاستيلاء على مزيد من المواقع عبر الضغط لتعيين أتباعه في المواقع العسكرية الحساسة، وهو ما تجلى من خلال محاولة شنقريحة الاستيلاء على الدرك الوطني، علاوة على مغازلته أخيرا لقائد الحرس الجمهوري الجنرال بن علي بن علي؛ مقابل سيطرة مهنا على جهاز المخابرات الداخلية عبر الجنرال ناصر الجن، والحرب الشرسة حول مديرية أمن الجيش، ثالث الأجهزة الاستخباراتية، والتي تتجه للانضمام إلى مهنا عبر جنرال آخر من رجالات توفيق هو الحسين بولحية، وبالتالي استرجاع “امبراطورية توفيق” التي سلبه إياها القايد صالح وبوتفليقة.
أخيرا، وعلى الرغم من تكرار الدعوات الصريحة المؤيدة لترشيح الرئيس تبون لعهدة ثانية، والتأييد الواضح لرئيس الأركان الجنرال شنقريحة لهذا الخيار، فإن نيل تبون عهدة ثانية سيكون مفاجأة؛ وفي حال حدث، سيؤذن بتفكك النظام الجزائري من الداخل، وأن تصبح صراعات الجنرالات علنية، بل وقد تفتح الباب أمام انقلاب عسكري صريح!! فتبون ليس من النوع الذي يمكن أن يحصل بشأنه توافق بين الجنرالين شنقريحة وتوفيق، وهو بالنسبة لهذا الأخير اختيار عدوه الراحل القايد صالح!! وكخلاصة، من المتوقع أن نشهد تصاعدا حادا “لحرب المواقع” بين الجنرالين شنقريحة ومهنا، وغالبا ما ستؤول كفتها لصالح هذا الأخير، بعد أن سيطر على معظم المفاصل الحساسة داخل المؤسسة العسكرية، وبالتالي، قد يجد شنقريحة نفسه مجبرا على الاختيار بين مصيري القايد صالح وتوفيق، وسيختار قطعا مصير هذا الأخير مقابل ضمانات بعدم تعرضه للسجن، وسيعود توفيق مرة أخرى “رب الدزاير”، الذي سيقود حربه الأخيرة، ضد حراك لن ينجح هذه المرة في إيقافه أي شيء، ولا حتى وحشية جنرالات العشرية السوداء!