نادرة هي المكاشفات التي ينبري فيها قادة الدول للإقرار بمعضلات اقتصادية واجتماعية، تسم الأوضاع في بلدانهم باستشراء آفات الفقر وتزايد الفوارق بين الفئات، بسبب انعدام التوازن في الإفادة من توزيع الثروات وتكافؤ الفرص.
لكن العاهل المغربي محمد السادس الذي لم يجد حرجاً في الاعتراف بمعضلات كهذه، في نطاق المصارحة وممارسة النقد الذاتي، اختار في خطاب عيد الجلوس أن يضع اليد على مكامن الخلل في تدبير ملفات اقتصادية واجتماعية، انعكس سلباً على شرائح واسعة من المجتمع المغربي، خصوصاً في الأرياف وأحزمة الفقر المنتشرة في الأحياء الهامشية في المدن.
المزيد: حقوقيون ل”مشاهد24”: عهد محمد السادس “مأسس” لنضال حقوقي دام عقود
بين آخر تقرير صدر عن مسار التجربة المغربية خلال نصف قرن من الاستقلال، والذي كان أشبه بتأمل في ثنايا الماضي الملتبس بانتهاكات حقوق الإنسان ومحدودية معيار التنمية، وبين صورة المكاشفة الصادمة التي قدمها الملك عن واقع مرير يتمثل في وجود أكثر من 12 مليون نسمة، يرزحون تحت طائلة الفقر، يكون خطاب العاهل المغربي أقرب إلى تململ وانزعاج من محدودية الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية التي لم تكفل التوازن. وعلى رغم إقرار بتراجع حدة الفقر تحت تأثير مبادرة التنمية البشرية التي أنهت عقدها الأول، فإن تشخيص الواقع المغربي اتسم بالجرأة والاعتراف باستمرار الاختلالات.
ما يميز هذا الاستخلاص أن الملك محمد السادس لم يعتمد منهجية التقارير الوردية، بل ارتكز إلى معاينة ملموسة شملت القيام بزيارات تفقدية لشتى أرجاء البلاد من العاصمة الرباط إلى أبعد قرية نائية تعوزها المدارس والمستشفيات والطرقات والخدمات. فقد جاء في خطابه أن جغرافية الحياة القاسية في أعالي الجبال ومنحدرات الأنهار والسفوح وامتدادات الصحاري لا تُحتمل. وبالتالي لا معنى للشعارات التي تعرض إلى ترفيع منسوب النمو وتحقيق الرخاء، مع بقاء ثلث سكان البلاد يعاني الحرمان وشظف العيش.
ما زاد في أهمية المنظور الآخر لمفهوم التنمية، أن تقارير ميدانية أنجزت على خلفية المعاينة، تفيد بأن أكثر من 29 ألف قرية تعيش خارج العصر. ما حتم الاتجاه نحو وضع موازنة طارئة للتخفيف من إشكالات الفقر وظروف التهميش. والأهم ليس رصد الموازنات، بل تحديد مجالات صرفها في النهوض بأوضاع الفئات المحرومة، أي أن تصبح السياسة الاجتماعية محوراً أساسياً لتوجهات الديموقراطية المحلية والسلطة التنفيذية على حد سواء.
بصيغة أخرى، طرح العاهل المغربي معالم خطة طريق ذات أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية، تتوخى انتعاش روح جديدة في التعاطي مع معضلات التنمية، من خلال توجيه الممارسات السياسية نحو المردودية الإنتاجية التي ترسخ الثقة في سلامة الاختيار الديموقراطي. غير أن هذه المكاشفة التي تأتي قبل أيام من بدء منافسات انتخابات البلديات تكسب أهميتها من تلازم الديموقراطية والتنمية.
المزيد: انتخابات برهانات سياسية حقيقية
في أقرب الإحالات إلى توصيف الأوضاع المزرية لفئات من الشعب أن ترسيخ البناء الديموقراطي لا يقوم على المنافسات الانتخابية وحرية الاقتراع، ولكن نجاعته تظل رهن النتائج التي تستطيع إنجازها أي تجربة سياسية على أرض الواقع، فالحرمان الاجتماعي يولد اليأس ويدفع إلى الانحراف أو التطرف، خاصة في ظل انتشار مظاهر التأثير عبر الشحن الفكري والعاطفي للتنظيمات الإرهابية المتطرفة.
لعله لهذه الغاية حرص العاهل المغربي على التنبيه إلى بؤس الأوضاع الاجتماعية للفئات المهمشة بموازاة دعوته إلى إصلاح وتطوير منظومة التعليم والتربية. وإذ يضاف هذا التوجه ذو الروح الاستباقية إلى خطة اعتمدها المغرب في مجال معاودة هيكلة الحقل الديني، يبدو جلياً أن الانتقال إلى السرعة القصوى في التعاطي مع أكثر الإشكالات تعقيداً، يتطلب زرع بذور الأمل والثقة. ما يشير ضمنياً إلى مكامن العطل التي اعترت تجارب انتقالية في ترتيب أوضاع ما بعد الربيع العربي. وبين الإصلاحات الدستورية التي جنبت المغرب الوقوع تحت تأثير موجة غضب الشارع والانكفاء إلى معالجات ميدانية لآفة الفقر والتهميش، تنحو التجربة المغربية في اتجاه الطريق الصحيح.
*كاتب صحفي/”الحياة”