أدى الرئيس الفرنسي السابق، نيكولا ساركوزي، والأمين العام لاتحاد الحركة الشعبية حالياً، والساعي إلى إعادة الترشح للرئاسة لاحقا، زيارته إلى تونس، تلبية لدعوة وجهتها الأمانة العامة لـ “نداء تونس”، الحزب الحاكم. حظيت الزيارة بحفاوة خمس نجوم ديبلوماسياً، فالرجل استقبله في قصر قرطاج رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي، واستقبلته أطراف عديدة، كشف بعضها، وبعضها الآخر ما زال طي الكتمان. وأن يرافقه وزير داخلية سابقة خطيرة وفي غير محلها، فالرجل لم يؤد زيارة دولة، حتى يحظى رسميا بذلك الشرف، لذلك لم يرافقه علنا السفير الفرنسي في احترام لتقاليد الجمهورية الفرنسية. ولا أعتقد أن هده الحفاوة وظهور وزير الداخلية التونسي مرافقا له (في الدائرة الثالثة تحديدا بالمعنى الديبلوماسي) يعودان إلى مجرد خطأ بروتوكولي، ناجم عن سوء تقدير أو جرعة من شطط الفرح، وإنما الأمر كان بروفة من أجل التمرن على إعادة التداخل بين الدولة والحزب، الأمر الذي عانت منه تونس طويلاً، وخلنا أننا قطعنا معه بعد الثورة. لعل مؤشرات عديدة ترجح أننا سنشهد شكلا مريبا من هذا التداخل، وقد يحدث ذلك بحجج أمنية أشد خطورة، بما يبيح، تحت وطأة التهييج الشعبي، عودة شكل من مليشيات ندائية، باسم اليقظة المواطنية، معاضدة جهد الدولة في مكافحة الإرهاب. ولقد بدا تسويق هذه المبادرة بدعوى ضعف الأجهزة الأمنية، وقلة الإمكانات إلخ. كانت لحزب للتجمع المنحل وأبي النداء سوابق عديدة في هذا، وكلنا نتذكر لجان اليقظة وغيرها من هذه التشكيلات.
المزيد: ماذا وراء تصريحات ساركوزي التي أغضبت الجزائر؟
عاد ساركوزي إلى بلاده هانئا سعيداً، لكنه ترك للتونسيين مزيداً من الغبار والدخان المتصاعد على الحدود، ومشقة ونكداً كثيرين، وهو الذي ذهب، في تصريحه، إلى أن تونس لم تختر حدودها، وهي ضحية جارين، فرضتهما الجغرافيا. يستعين التونسيون بمثل شعبي، يستشهد به للدلالة على خذلان من تريد الاستعانة عن قصد، تماما كما هو حال الزيارة “جاء يعينه على حفر قبر أبيه فهرب له بالفأس”. كان “نداء تونس” قد استعان بساركوزي من أجل تجاوز الأزمة، فإذا به يضاعف من حدتها. كان النداء، عن خبثٍ، يسعى إلى استغلال الأزمة التي تمر بها البلاد، وتجييرها لصالحه، من خلال دعوة بعض الشخصيات والنجوم لزيارة تونس، إثر تداعيات العملية الإرهابية، ليكون فيؤها السياسي لصالحه، وبالأحرى لصالح أمين عامه الجديد الذي من فرط تسرعه يتعثر كثيراً.
رجع ساركوزي. ولكن، ظلت زيارته وتداعياتها الخطيرة محل حديث الناس والأوساط السياسية، فهو كان يعلم أن ذلك لن يحمل على أنه مجرد سهو، أو زلة لسان، وهو المتمرس تماماً على مثل هذه التصريحات (مهنته الأصلية المحاماة). إنه التحرش بالبلدين وإثارة الفتنة بين شعوب شقيقة. هل كان يتوقع ردود أفعال ممن استقبلوه أم لا؟ هذا يعود إلى طبيعة الحفاوة التي ظل يعامل بها إلى لحظة توديعه في المطار.
كان ساركوزي يعلم، في قرارة نفسه، أن من استعطف قدومه، ومن أراد تجيير زيارته لفائدة حسابه الجاري سياسياً، لا يملك الشجاعة أن يوقفه، أو حتى أن يعلق على حديثه. للرجل حاسة شم لم تخطئ قط، فحتى البيان الذي أصدره الأمين العام لحزب نداء تونس، محسن مرزوق، الذي كان حاضرا في أثناء التصريح، والرجل في ضيافته “الشخصية”، لم يزد الطين إلا بلة، لأنه تعامى عما هو أساسي، وراح يسرد تفاصيل، لا علاقة لها بالموضوع أصلاً، كانت ثرثرة صيفية ثقيلة.
محسن مرزوق الذي يصنع حاليا السياسة الخارجية للبلاد، وهي دبلوماسية موازية، في ظل غياب شبه كلي لوزير الخارجية الذي انشغل بوضع اللمسات الأخيرة على تفعيل الشراكة مع المعهد العربي لحقوق الإنسان الذي ترأسه سابقاً، من أجل دعم قدرات الدبلومسية التونسية في مجال ثقافة حقوق الإنسان. هل هذه أولوية الأولويات لوزارة الخارجية، وأين مسائل الصعوبات الاقتصادية، الإرهاب، صورة تونس، إدارة الأزمات الحادة على غرار الخطف والمقاطعة، إلخ من برامج تكوين الدبلوماسية التونسية إن كان هدا وقتها المناسب. وما الذي دفع رئيس مجلس نواب الشعب للسفر إلى بريطانيا، في محاولة لثني البريطانيين عن القرار الذي اتخذوه. إنها مهام يتم التفويت فيها لهياكل وسلطات أخرى، في حين أن الأمر هو من مشمولات هذه الوزارة التي تختار دفن رأسها عند الأزمات.
ما فضل ساركوزي سابقا على تونس؟ وهل هو حقاً صديقها؟ وهو الذي ساند باستمرار نظام بن علي، وكان ضيفه المبجل، على ألا ننسى مواقف مختلف وزرائه من الثورة التونسية. هل هو العصفور النادر الذي تهون من أجله كل هذه الحماقات التي نرتكبها، بفعل سوء تقدير بعض من نخبنا، لا فقط في حق ثورتنا، بل دولتنا وسمعتنا ومصالحنا الاستراتيجية، خصوصا مع شقيقتنا الجزائر؟
المزيد: لعمامرة يصف تصريحات ساركوزي حول الجزائر بالفكر الاستعماري
ما إن غادر ساركوزي البلاد، حتى عادت سلسلة الخلافات الداخلية تتصاعد في “نداء تونس”، وهي، في الأصل، تصفية حسابات بين الأجنحة المتصارعة، وأساسا بين الشقين، الدستوري واليساري الذي يمثله محسن مرزوق. ربما هناك بعض من المبدئية في استنكار بعضهم ما أتاه ساركوزي، بل ذهبت إلى بعض رمزه إلى إنكار أن يكون النداء قد وجه دعوة، أصلاً، إلى ساركوزي، ذاهبين إلى تحميل المسؤولية إلى من دعاه، في إشارة إلى أمينه العام، محسن مرزوق، لكن هذا يعطي انطباعا سيئا للجميع، فالدولة لا تسيرها الحكومة، ولكن يسيرها أمين عام حزب يفترض أنه يحكم مع حلفاء.
عاد ساركوزي تاركا لنا أزمة مع الشقيقة الجزائر، لا ندري كيف سيتم تطويقها، خصوصا في ظل شكوك متزايدة من خفايا الاتفاق الذي أمضاه الأمين العام نفسه مع السلطات الأميركية، وسط تسريبات أجنبية عن وجود مساع حثيثة، لتحويل تلال منطقة الهوارية، المطلة على المتوسط إلى قاعدة أميركية ذات مهام لوجستية تقنية.
طلبت الجزائر من سفارتها في تونس أن تقدم لها تقريرا دقيقاً عن تصريحات ساركوزي. الرسالة ليست موجهة إلى ساركوزي، ولا إلى فرنسا بالدرجة الأولى، بل إلى السلطات التونسية التي استقبلت ضيفاً، لا يعرف أصول الضيافة، فضلا عن أنها صمتت عند وقاحته، تاركة ردود الفعل إلى الأحزاب الجزائرية في انضباط ذكي.
أكيد أن النداء الذي لبى ساركوزي دعوته لا يمكن أن يكون “نداء تونس”، إنه نداء آخر، ملامحه لا تشبه بلادنا. نداء أبح وهجين ومتلعثم.
*وزير تونسي سابق/”العربي الجديد”