بقلم: المهدي مبروك*
في الذكرى الثالثة لتأسيسه، أبت الأحداث إلا أن تخذل حزب نداء تونس (الحاكم حالياً بمعية حلفائه)، وتفسد عليه ما كان يشتهيه: احتفال صاخب يستعرض فيه الحزب مباهجه ووجوه قادته القدامى والمخضرمين. شهداء المؤسسة الأمنية الذين قضوا تحت غدر رصاص الإرهاب والضحايا الذين سقطوا بالعشرات في حادث القطار المريع أشاعوا مناخاً من الحزن أربك المنظمين.
تداعى، قبل أكثر منذ ثلاث سنين، “رجال ونساء ولبوا النداء”، حينما كانت حركة النهضة في الحكم منذ ثلاث سنين خلت. جاءوا من روافد أيديولوجية شتى، جمعت من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين. كان النداء استغاثة سفينة نوح، أو هكذا أراد صنّاعه: نواة صلبة من التجمعيين ومال خائف يبحث عن ملاذ، وإعلام يواري سوأته بمزيد من تجريم الثورة. حملت السفينة من كل زوجين اثنين وخليطاً هجيناً بلا ملامح، سوى تقاسيم الحقد والكراهية لشق كبير من التونسيين من أبناء جلدتهم. انطلقت سفينة النداء إنقاذاً للبلد، كما روجوا وأفلحوا في ذلك كثيراً والحق يقال. أما الجماهير التي انتخبت “النداء”، فقد فعلت ذلك خوفاً على تونس من مشروع الإسلاميين الذين تمت شيطنتهم في مناخ إقليمي، تبدلت رياحه، بما لم يشتهِ هؤلاء. روج “النداء” لنفسه صورة حامي النمط الحداثي للمجتمع التونسي.
قبل يوم من انتظام هذا المهرجان، تم الإعلان عن الحدث وأهدافه الكبرى، المعلن منها والمبطن، على غرار إثبات أن الحزب متراص البنيان، وأنه يحكم بتحالف مريح، وأنه استطاع، بعد مائة يوم من الحكم، أن يحقق إنجازات عديدة، هي جملة من الرسائل التي كانت حاضرة في أذهان المنظمين، خصوصا وأن نسبة الرضاء على النداء والحكومة بصفة عامة قد بلغت أدناها في الأسابيع الفارطة. الإخفاقات الأمنية المتواصلة في مواجهة الإرهاب، الفوضى الاجتماعية التي اتخذت من الإضرابات شكلها الأمثل، ما عطل مصالح المواطنين وأشاع مشاعر الاستياء واستشراء الفساد بشكل منقطع النظير في اقتصاد تحكمه بارونات التهريب، وهذا من أمراض وعد “نداء تونس” بعلاجها. ولكن، يبدو أنها تفاقمت معه.
كان توقيت المهرجان مناسباً للرد على حملة “وينو البترول؟” وعلى كل المبادرات التي اتخذت بعض الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني من محاسبة الفاسدين لافتة كبرى لتحركاتها خصوصا وأن القضاء ألغى، في طور ابتدائي، الأحكام الخاصة بمصادرة أموال الفاسدين من العائلة الحاكمة سابقا.
غير أن الذكرى الثالثة أعدت، في اعتقادي، وهذا الأهم، احتفاء بقدوم محسن مرزوق، وهذه المناسبة الأولى لظهوره أميناً عاماً لحزب النداء، في ظل تجاذبات حادة لم تعد خافية على أحد، وهي تجاذبات لم تستطع حجب انقسام التجمعيين إلى ملل ونحل عديدة، هي شتات سياسي. لم يخف لزهر العكرمي، وهو أحد قيادات النداء، هذا السبب في أحد تصريحاته. كانت المناسبة فرصة سانحة لإعلان القيادي الطموح، محسن مرزوق، أنه يقود السفينة، وأن خروجه من القصر كان لإدارة الحزب، والتدرب على مهام سياسية قادمة، لا نعرف ملامحها. عرف عن الرجل طموحه إلى حد الشعور بالعظمة والزعامة الكاسحة، وكل من عرفه عن قرب في الساحة الطلابية، في الثمانينيات تحديداً، يصل إلى هذه الحقيقة. للرجل طموح وقدرة غريبة على نسج علاقات مثمرة، وإزاحة من يقف في وجهه. الرجل البلدوزر قدم للنداء، وسنرى كيف سيزيل متاريس صلبة في طريقه.
كان الإصرار على عقد ذلك الاجتماع والتعبئة، على الرغم من المزاج الجنائزي العام، يراد منه عدم التفريط في فرصة سانحة لتسويق صورة محسن مرزوق قائداً أول للنداء.
عقدت ذكرى التأسيس الثالثة، ومؤسسة رئاسة الحكومة، علاوة على أنها عاجزة عن إدارة البلاد، فاقدة رؤية استراتيجية تدير البلاد أكثر من شهرين. نقابات تشل البلاد، ووزارات مبلقنة واحتجاجات مؤججة. تنسحب هذه الصورة على مؤسسة الرئاسة التي حاولت أن تتدارك الأمر، أخيراً، حينما بادر رئيس الجمهورية إلى زيارة بعض الجرحى في الحادثين، في محاولة لامتصاص غضب الناس، وهم يرون رئيسهم يختبئ كلما مرت البلاد بمنحة. كان المرزوقي على خلاف ذلك مفرطاً في حضوره، سواء لطبع يسم شخصيته، أو تنفيذاً لوصايا مقربيه، على الرغم من أنه نادراً ما كان ينصاع إلى رأي هؤلاء.
تكمن هشاشة “نداء تونس” في أنه حزب لا يبلغ ذروة مردوديته، إلا للرد على خصومه، وقد أثبت نجاحاً لافتا في هذه الاستراتيجية، وكلما ضعف خصومه فقد مبرراً لذلك العنفوان. ولقد أدركت حركة النهضة هذه الحقيقة، فغيّرت من تكتيكها السياسي تجاه النداء بالذات.
الآن، يمتحن الحزب ذاته في قدرته على استعادة لحمته الداخلية، بعد أزمة حادة عصفت بهياكله الوسطى وكوادره، وحتى قواعده التي اضطرت، مرات عديدة، إلى تنظيم احتجاجات أمام مقرات النداء، للتنديد بالخلافات الداخلية التي برزت إلى العلن. سيكون قدوم محسن مرزوق امتحاناً شخصياً له، فضلا عن امتحان الحزب في رص صفوفه، في سياقٍ لن يجد فيه معارضة، كالتي بنى عليها خطته التأسيسية: معارضة إسلامية قوية تصارعه.
يستطيع حزب نداء تونس أن يفاخر باجتماعه هذا، بقطع النظر عن المهازل التنظيمية التي رافقت الاجتماع الشعبي الحاشد، ومن تابع ذلك الحدث، بما فيها إعلام الجوقة، صدموا وهم يرون الآلاف يرقصون على أنغام موسيقي شعبية رخيصة. وعلى بعد عشرات الكيلومترات، يحفر الأهالي قبور أبنائهم الذين سقطوا شهداء إرهاب التكفير وإرهاب الإهمال. ووزراء القطاعات المنكوبة تلك، النقل والصحة وغيرها، يتمايلون على تلك الأنغام نفسها، ولكن، يعلم النداء أن تلك “تخميرة” مؤقتة، سرعان ما تنقضي على واقع معقد وعسير.
* وزير تونسي سابق/”العربي الجديد”