يحرص الحزب الشعبي الإسباني منذ هزيمته الأخيرة، على الظهور أمام الرأي العام، متماسكا موحدا وملتفا خلف زعيمه، ماريانو راخوي، رئيس الحكومة الحالية ؛ لن يتخلى عنه في حالة ما إذا قرر خوض الانتخابات التشريعية المتوقعة،على رأس التنظيم الذي حصل على المرتبة الأولى بين الأحزاب في استحقاقات العشرين من ديسمبر الماضي .
لكن الصفوف المتراصة،لا تخفي بالضرورة ما يسري في الظل من نقاشات وتجاذب في الرأي بين مكونات الحركة، بخصوص مستقبلها والمرجعية الفكرية التي يجب أن يعتمدها المنتسبون ،حتى لا يفقد الحزب دوره وحضوره في المشهد السياسي المتغير في إسبانيا.
وما من شك في أن “الشعبي” أنقذ إسبانيا من حافة الإفلاس، ولو بإقراره سياسات لا شعبية ،يتعرض حاليا لهزات وعواصف جراء إخفاقه في الانتخابات الأخيرة ، خاصة وقد فقد ما يقرب من 40 في المائة من الأصوات التي حصل عليها في انتخابات 2011 في مواجهة الحزب الاشتراكي العمالي بزعامة “الفريدو بيريث روبالكابا ” الذي تولى قيادة السفينة الغارقة، بعد استقالة خوصي لويس ثباطيرو.
للمزيد: برود في العلاقات بين ملك إسبانيا وزعيم الحزب الشعبي
وحسب تقرير نشرته جريدة ” إلموندو” التي تعتبر قريبة من الحزب الشعبي ، فإن الأصوات التي خسرها الأخير، توزعت بين حزب “ثيودادانوس” وهو تيار ليبرالي انشق دون ضوضاء عن “الشعبي” فيما ذهبت الأصوات الأخرى إلى “المتغيبين” عن التصويت والناقمين على النهج الفكري والاجتماعي للحزب ، بعد أن تخلى، في رأيهم، عن المرجعيات المؤسسة.
واللافت في هذا الحراك الداخلي، أن زعيم” ثيودادانوس” البرت ريفيرا” الحاصل على أربعين مقعدا في البرلمان ، أصبح من أشد المعترضين على قيادة ، ماريانو راخوي، للحكومة المنظرة ، رغم أن التنظيم الفتي خرج من أعطاف “الشعبي” ما حمل محللين على القول بأن انتفاضة الجناح الليبرالي الشاب على المحافظين، ما هو إلا إعلان متقدم لما سيحدث لاحقا من تغيير بنيوي فكرا وتنظيما في الحزب الشعبي، يمكن أن يطول أو يقصر مداه.
وفي هذا السياق، تتحدث تقارير متوافقة عن ثلاثة سيناريوهات ، تجسدها ثلاثة احتمالات أساسية: ينادي الأول منها بالتريث وانتظار المِؤتمر المقبل للحزب للحسم في الخط الذي سيعتمده المؤتمرون؛ فيما يتبنى التوجه الثاني الاكتفاء بالإعلان عن نفسه كتيار أو منبر داخل الحزب ،متميز في مواقفه وكيفية تعاطيه مع الشأن العام والخاص ، يكون له فضاؤه الخاص ونصيب في الترشيح للاستحقاقات المختلفة.
أما التيار الثالث، فإنه يدعو صراحة إلى تأسيس حزب جديد ، ذي توجه مغاير،أكثر محافظة مستقاة من النبع الأصلي الذي مثله الحزب الأم ” التحالف الشعبي” بزعامة السياسي الراحل ” مانويل فراغا” أشهر الوزراء في ستينيات القرن الماضي في ظل حكم الديكتاتور” فرانكو”.
سيتوسع “الشعبي” فيما بعد، بعد انسحاب “فراغا” واحتفاظه بالرئاسة الشرفية، لينفتح، بعد مخاض، على مجموعة من الأحزاب اليمينية الصغيرة وجمعها، بدفع من رئيس الحكومة السابق “خوصي ماريا أثنار” الذي اقترب بمسافة محسوبة، من الوسط الليبرالي ، بضغط من المنتسبين إليه ومواكبة لتحول المجتمع الإسباني نحو التحديث على كافة الأصعدة
واستمرالنهج المنفتح منذ استلم الرئيس الحالي، ماريانو راخوي،قيادة الحركة، ما فرض عليها الاستجابة إلى مطالب المجتمع في التغيير بضغط من اليسار والمجتمع المدني، تجلت في إصدار تشريعات جريئة تمس أسس العقيدة المسيحية من قبيل “قانون الإجهاض” فالحزب في الحكومة ليس نفسه في المعارضة.
إقرأ ايضا: إسبانيا تدخل منعطفا سياسيا بعد تراجع الحزب الحاكم
وفي نفس السياق،تشير تقارير إلى استعداد أوساط مسيحية قريبة من الكنيسة للمساهمة في تمويل الحزب المحافظ الجديد ، إن توفرت له شروط الانعقاد والتأسيس، بل ذكر اسم وزير الداخلية الأسبق “مايور أوريخا” كمحرك لهذا التيار.
ولا غرابة أن يطال الحزب الشعبي، قريبا أو بعيدا, نفس ما يتهدد باقي التشكيلات المماثلة: فالاشتراكي، لا يخلو بدوره من نزعات تدعو إلى السير به نحو يسارية أشد لاستعادة ناخبيه ،فيما أخرى تريد له الاستقرار في الوسط في قلب العائلة الديمقراطية الاجتماعية.
وفي جميع الأحوال ، فإن الحزبين الكبيرين اللذين تناوبا على الحكم منذ إرساء نظام الملكية البرلمانية في إسبانيا ،يستشعران بوضوح خطر التغيير الضاغط من “بوديموس” بالنسبة للاشتراكيين ومن ” ثيودادانوس” بالنسبة للحزب الشعبي؛ إذ لا يخفي الوافدان الجديدان على الساحة الحزبية سعيهما نحو استمالة القواعد الاشتراكية والشعبية ،مع الإشارة إلى أن الحزبين الفتيين، وبالخصوص “بوديموس” لم يستقر بدوره على خط فكري قار،فقد كشفت الأزمة الحالية بين الرجلين الأول ، باللو إيغليسياس، والثاني ،إنريغو إيريخون، عمق الخلاف بين الاثنين على صعيد مفهوم الزعامة وكيفية تدبير التنظيم .
ولا يستبعد في غضون الأسابيع المقبلة ارتفاع في درجة حرارة النقاش داخل الأحزاب الأربعة التي تطمح لتحسين نتائجها في الاستحقاقات المتوقعة نهاية شهر يونيو المقبل ؛ في حال الفشل في تشكيل حكومة الضرورة.
ولن تظل دعوات التغيير والتدافع بين الأجنحة مقصورة على الحزب الشعبي، بل ستنتقل الكهرباء إلى الاشتراكيين وبوديموس ، و بشكل أخف إلى ثيودانوس. وستكون الحملات الانتخابية مناسبة لعرض ذات وقوة كل حزب.
روابط ذات صلة: الانتخابات الإسبانية..نهاية عهد الثنائية الحزبية