أصدرت دائرة المحاسبات في تونس تقريرها المتعلق بمراقبة تمويل الحملات الانتخابية الرئاسية في 2014، وأثار لغطاً ونقاشات حادة واتهامات متبادلة بين المرشحين ومؤيديهم، لخطورة بعض ما ورد في التقرير، خصوصاً عند حديثه عن تمويلات أجنبية ضخمة، تدخلت في سير الحملات الدعائية، ولأهمية الهيئة التي أصدرت التقرير، دائرة المحاسبات، باعتبارها مؤسسة رقابية دستورية ذات صلاحيات واسعة. ومن هنا، جاء التقرير مفصلاً ليكشف عن تجاوزات واختراقات، وستتم إحالتها لاحقاً إلى القضاء، للنظر في الآثار المترتبة عنها.
وربما من أخطر ما ورد في تقرير دائرة المحاسبات تأكيده حصول تجاوزات مالية كبيرة في تمويل الحملات الدعائية للمترشحين للرئاسة، وقد قدم تفصيلات حول إخلالات شابت الحملات الانتخابية لعدد من المرشحين، خصوصاً من حيث غياب الشفافية، في الكشف عن حجم الأموال التي تم إنفاقها (تجاوزت السقف القانوني المسموح به)، أو في ما يتعلق بالمسالك التي تم من خلالها صرف هذه الأموال، بالإضافة إلى عدم التزام عدد من المرشحين بوجوب تنزيل كل الأموال المرصودة للحملة في حساب بنكي واحد. وأخطر ما ورد في التقرير يتعلق بما سماه “التمويل المقنع عبر الجمعيات”، وأيضاً “التمويل الأجنبي”. فمن جهةٍ، تولت بعض الجمعيات المساهمة في تمويل الحملات الانتخابية لبعض المرشحين (ما يحظره القانون في نص المرسوم عدد 88 لسنة 2014). وقد رصدت دائرة المحاسبات، في تقريرها، تمويل جمعية يترأسها أحد المرشحين حملته الانتخابية (تحفظ التقرير عن ذكر اسم المرشح) وتولت تسديد نفقات تتعلق بتظاهرات انتخابية، ودفع أموال لمؤسساتٍ، تعمل في مجال الدعاية والإعلام. والخطير في الموضوع أن متابعة حسابات هذه الجمعية كشف عن تلقيها مبالغ مالية مهمة (مليون دينار) من بلدين أجنبيين (عن طريق السفارة في حالة أولى، وعبر وكالة للتعاون الفني في حالة ثانية).
المزيد: المصالحة والعدالة تقفان على طرفي نقيض في تونس
وفي السياق نفسه، رصد تقرير دائرة المحاسبات تلقي حسابات شخصية لمرشحين تحويلات غير اعتيادية من الخارج، حيث يرد في التقرير نصاً “شهد الحساب الشخصي لأحد المترشحين للانتخابات الرئاسية تحويلات مالية هامة، بلغ مجموعها خلال الفترة الانتخابية ما قيمته 4.6 ملايين دينار، علما أن المعني بالأمر قام بتمويل حملته الانتخابية الرئاسية أساساً بواسطة موارد ذاتية”. وتخالف مثل هذه التمويلات نص القانون (المرسوم عدد 88 لسنة 2014).
وما يمكن استنتاجه، إجمالاً، من تقرير الدائرة وجود جملة من الإخلالات الواضحة للحملات الانتخابية، تعلقت بالجوانب المالية والدعائية، غير أن التمويل الأجنبي يظل أخطر تجاوز يمكن أن يلحق أي عملية انتخابية، ويلقي حول شفافيتها ظلالاً من الشك، فمن غير المقبول بأي صورة أن يمر التمويل الأجنبي مرور الكرام، خصوصاً وأن الممارسة الديمقراطية الناشئة في تونس لا تتحمل مثل هذه الممارسات الخطيرة، والتي تفسح المجال أمام التدخل الأجنبي، للتحكم في الرأي العام، وتوجيه المزاج الشعبي إلى انتخاب مرشحين دون غيرهم. وإذا كانت دائرة المحاسبات قد عللت عدم ذكرها أسماء المرشحين الذين استفادوا من التمويل الأجنبي، أو المرشح الذي سخّر جمعيته للمساهمة في تغطية نفقاته، عبر تمويلات خارجية، بالقول، إن الأمر يتعلق “بالمآل النهائي لإجراءات إدارية أو قضائية موازية أو لاحقة للتقرير”، فمن الضروري تأكيد أهمية قيام الجهاز القضائي بدوره في التحقق مما ورد في تقرير الدائرة، خصوصاً في ما يتعلق بالتمويلات المشبوهة الواردة إلى بعض المرشحين، أو للجمعية التي يرأسها أحدهم.
الدور المهم الذي تلعبه الأجهزة الرقابية، وما يتبعه من أحكام قضائية، وما ينبغي أن يرافقه من شفافية في ذكر أسماء كل من تورط في انتهاكات قانونية، يظل فعلاً ضرورياً، وخطوة أساسية لبناء نظام سياسي، يحترم المنظومة القانونية للدولة، ويحترم الأسس التي تم التوافق عليها في العمل السياسي، وعدم تلويث العملية الانتخابية بما يمكن أن يشكك في نجاعتها أو جدواها. وإذا كانت ظاهرة التمويل الأجنبي، أو تمويل لوبيات حملات انتخابية، أمراً معروفاً في ظل ديمقراطيات كبرى، فإن الفارق، هنا، أن الأنظمة القضائية في الدول الكبرى تحاسب كل مورط في نشاط مشبوه، ويتم تحميله مسؤولية ممارساته اللامشروعة. وفي المقابل، تقتضي وضعية الانتقال الديمقراطي التونسي حرصاً ويقظةً كبيرين، لمنع تحول العمل السياسي والتنافس الانتخابي إلى مجرد صراع بالوكالة بين مرشحين مدعومين من الخارج، أو تتحول العملية الديمقراطية برمتها إلى مجرد ممارسة شكلانية، يحتكرها أصحاب الأموال، بحضورهم المباشر، أو عبر داعميهم، بما يفقد الانتخابات معناها، بوصفها تعبيراً عن الإرادة العامة، قبل كل شيء.
* كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي /”العربي الجديد”