العنف في الـمجتمع التونسي.. نحو صياغة فرضيات مفسرة لأسباب استفحاله

المقدمة:

تسعى هذه الدراسة إلى الكشف عن الأسباب الحقيقية التي يمكن أن تفسر ظاهرة العنف في المجتمع التونسي . هذه الظاهرة التي اكتسحت جميع المجالات تقريبا الرياضية منها والسياسية والاجتماعية. ولعل ما تنقله وسائل الإعلام من مظاهر العنف المختلفة، تُثبت أنه بلغ حدّا يتعذرُ معه القول أنه مُجرد تهول أو مُبالغات صُحفية، تهدف، لأسباب ربحية أو سياسية، إلى إثارة الرأي العام . لقد نقلت لنا وسائل الإعلام أحداث العنف كما هي، في الملاعب الرياضية والشوارع والساحات العامة…. وهذه مهمتها، وهي من هذه الزاوية لم تُفش سرّا.

قد تكون الصورة المنقولة قاتمة، إلاّ أنها للحقيقة ليست زائفة ولا كيدية. إذ ومع حرص رجال الإعلام على نقل الصورة كما هي، ضمنوا إدانتهم الصريحة لها , ودعوا في أكثر من مُناسبة، علماء الاجتماع إلى التدخل من اجل فهم ظاهرة العنف ومُعالجة أسبابها. وعلى أهمية هذه الدعوة، فإنها تكرس قناعة مفادُها أن علم الاجتماع اختصاص يتم اللجوء إليه لمعالجة القضايا الاجتماعية، لا للوقاية منها. لقد سبق لأحد الباحثين أن حذر من خطورة هذه القناعة بالقول “يجب أن نكف عن الاستنجاد بالعلوم الإنسانية وقت الشدّة بدل أن نوظفها قبل وقت الشدّة في التعليم والبحث والإدارة”. [1] وعلى أية حال فإن ما يُحفز علماء الاجتماع على دراسة الظواهر الاجتماعية، هو أساسا، وعيهم بأهمية تأثيرها سلبا أو إيجابا في حياة المجتمع، وليس بالضرورة رغبة الآخرين. وبقطع النظر عن هذه الملاحظات التي قد تبدو للبعض بمثابة مُرافعة للدفاع عن علم الاجتماع، فإن استفحال ظاهرة العنف في المجتمع التونسي، والتي لم تنفع معها التحاليل الصحفية والبرامج التلفزية والإدانات والمناشدات، يستدعي ، فعلا، تدخل علماء الاجتماع لعلّهم ينجحون في بلورة فهم شامل وموضوعي لها، يكشف عن دوافع ممارسيها وأهم المحرضات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتنظيمية التي تكرس هذه الظاهرة كواقع اجتماعي يصعب تجاوزه.
ذلك هو الهدف الذي تسعى إلى تحقيقه هذه المساهمة التي تأسس على فرضية أساسية في علم الاجتماع، ترى أن العنف لا يُمكن رده إلى نوازع شريرة مُتأصلة في الطبيعة البشرية [2]. بقدر ما هو نتيجة لعوامل اجتماعية واقتصادية وثقافية وتنظيمية مُتداخلة تدفع الفرد إلى مُمارسة العنف وتبرره له[3]. كما تنطلق هذه المساهمة من تعريف للعنف مفادهُ: كل فعل واعٍ ينتهك القانون المنظم للعلاقات الاجتماعية، ويتعارض مع القيم والعادات والأعراف التي يسطرها المجتمع وينتظم وفقها، ويكون من نتائجه إلحاق ضرر مادي أو معنوي بالأفراد والممتلكات العامة منها والخاصة. وتفيد صفة الوعي أن العنف، ماديا كان أو معنويا، فعل مقصود وهادف، وبالأحرى مُنظمٌ أي أن القائم به يرسم خططا ويحدد وسائل وأهداف. ومن ثمّ فإنّ تعريفنا للفعل العنيف لا يتحدد بقيس مدى حدته، بل بمدى وعي وقصدية القائم به، إذ هو على الأرجح ليس عدميًا ولا عبثيّا.[4] وإذا كان العنف على هذا النحو فمن المرجح أن المقاصد النهائية للقائمين به لا تخرج عن أحدى الاحتمالات الثلاث التالية.
العمل من أجل فرض احترام القوانين والمبادئ والقيم المنظمة للمجتمع (عنف المحافظين).
السعي إلى إصلاح هذه القوانين والمبادئ (عنف الإصلاحيين).
العمل على تغيير هذا القوانين والمبادئ. جذريا. (عنف الثوريين)[5] يمكننا، بناءا على هذه المقاصد طرح الأسئلة التالية:
– هل العنف الذي نشهده اليوم في المجال السياسي والاجتماعي والرياضي مُحاولة لفرض احترام القوانين والمبادئ. أم هو مُحاولة لإصلاحها وتعديلها؟ أم أن الأمر يتعلق بسعي حثيث إلى تغييرها؟ بمعنى آخر هل العنف سلوك نافذ ، مستفيد من هذه القوانين والمبادئ الجاري بها العمل؟ أم هو رَدة فعل مظلوم يرى في استمرار هذه القوانين والمبادئ سببا لإقصائه وتهميشه؟. ولمّا كان العنف يتمحور أساسا حول جملة القواعد المنظمة للمجتمع، فهل هذا يعني أنها لم تعد تحظى بالإجماع؟
لا خلاف حول وجاهة طرح مثل هذه الأسئلة. إلاّ أن لإجابة عليها، تُفضي، في الغالب، إلى تبرير العنف وإضفاء الشرعية عليه بدل تفسير أسبابه . ذلك أن كل إجابة ستكون بالضرورة مبنية على أساس ترجيح صاحبها لأحد مقاصد العنف سابقة الذكر[6]. ولكي لا تكون هذه الدراسة مجرد إضافة اسم في قائمة المنددين بالعنف أو المشيدين به، فإنها سنحرص على البحث عن إجابة وافية على سؤال جامع هو: ما الذي يُفسّر استفحال ظاهرة العنف في المجتمع التونسي, بقطع النظر عن المقاصد النهائية للقائمين به ؟ . ستكون الإجابة مبنية على الفرضيات التالية :

الفرضية الأولى: إن استفحال ظاهرة العنف في المجتمع التونسي هو نتيجة لتربية تقسم الفضاءات الاجتماعية إلى صنفين: الأول معياري تُحترم فيه القواعد الاجتماعية والقانونية والثاني لا معياري يُسمح فيه للأفراد بانتهاك هذه القواعد.
الفرضية الثانية: إن ظُهور “تنظيمات خفية” تنشط في المجال الرياضي والاجتماعي والسياسي حوَّل العنف الفردي إلى عنف جماعي مُنظم وبتالي جعله أكثر حدّة وشمولاً.
الفرضية الثالثة: إن نمط العلاقة التي تحكم أعضاء التنظيمات الرسمية (الجامعات الرياضية والأحزاب والنقابات…)، والتي يغلبُ عليها الطابع المُساواتي، يخلقُ توترات داخلية
لا يتم تجاوزها في الغالب، إلا عبر نشر عقيدة المؤامرة الخارجية وهو ما يحفز أنصار هذه التنظيمات على مُمارسة العنف ضد الآخرين المتآمرين.
الفرضية الرابعة: إن تنشئة الفرد على مجموعة من القيم والمبادئ، وترسيخ القناعة لديه بأنها كفيلة بتحقيق أغلب أهدافه وآماله: (الحرية، التشغيل.. الكرامة) ثم يكتشف
أن المجتمع لا يلتزم بهذه المبادئ والقيم، سيكون مُهيئا نفسيا للممارسة العنف دفاعا عنها.وعندما يفقد الأمل في تطبيقها فإنه لا يتردد في ممارسة العنف حتى على ذاته.

أولا : تربية اجتماعية و فضاءات لا معيارية

فسّر أميل ديركايم، عالم الاجتماع الفرنسي ظاهرة استفحال العنف بخضوع المجتمع لحالة طارئة سماها ” لا معيارية “(Anomie) وهي تفيدُ عجز المجتمع على فرض احترام قواعده الأخلاقية والقانونية على جمع أفراده، ممّا يعني عيشه مُؤقتا في حالة من الفوضى الناتجة عن غياب القواعد المنظمة أو عدم الالتزام بها .[7] وبقطع النظر عن العوامل المتسببة في هذه الحالة ألا معيارية فإن استفحال العنف في المجتمع التونسي، دفع الكثيرين إلى القبول بمثل هذا التفسير . [8] ذلك أن المتتبع للنشاط الرياضي يُمكنه أن يكتشف حقيقة أن قوانين اللعبة وقواعدها الأخلاقية تُركت جانبا من قبل جميع المتدخلين تقريبا: الجماهير، اللاعبون، المسيرون، المدربون… فهؤلاء جميعا، وبمجرد دخولهم للملعب، يتخلون عن هيبتهم ووقارهم وحسن أخلاقهم. فأناقة المدربين والمسيرين ووقارهم سُرعان ما تفسده حركاتهم واحتجاجاتهم ، أما الجماهير، فحدّث ولا حرج، فمع اعتلائها للمدرجات ينفلت عُقال الجميع، فتسمعُ شتائم وكلمات تخدش الحياء مُوجهة للحكم والمراقبين والمدربين واللاعبين ورجال الأمن، ولآباء وأمهات هؤلاء جميعا، وحتى لرب الجلالة. ينطبق هذا الأمر على اللاّعبين أيضا، إذ ينتابك شعور، وأنت تتابع مُقابلة، في كرة القدم مثلا، بأنهم لم يتدربوا على رسوم تكتيكية ولا على كيفية التحكم في الكرة وتمريرها وتسديدها بقدر ما تدربوا على كيفية الاعتراض على قرارات الحكم، والتمويه عليه، وعلى كيفية استفزاز المنافس بحركات لا رياضية كالضرب بالمرفق و الركل بالرجل …. ثم يختم هذا المشهد الذي يغلب عليه العنف اللفظي بعراك ومُواجهات حقيقية بين الجماهير فيما بينها، ومع رجال الأمن يصحبُها تهشيم للممتلكات العامة والخاصة وجرحى وأحيانا ضحايا بشرية…. غير أن الملاعب الرياضية ليست الفضاء الوحيد الذي استشرى فيها العنف، فشبكات التواصل الاجتماعي صارت هي الأخرى فضاء لتبادل العنف اللفظي. فمُفردات النقاش والحوار بين المدونين، عبر صفحات الفايسبوك مثلا، تُثبت أن القوانين والقواعد الأخلاقية والقيم الجاري بها العمل في المجتمع التونسي تركت جانبا. واللافت للانتباه حقا هو أن الناشطين في هذه الشبكة نجحوا في أكثر من مرّة في تنظيم العديد من المظاهرات والوقفات الاحتجاجية، ذات أبعاد سياسية وثقافية، تخللها أعمال عنف طالت الإعلاميين والمفكرين ورجال الأمن والمرافق العمومية ومؤسسات المجتمع المدني.
بناءا على هذه المعطيات يمكن طرح السؤال التالي: هل تجيز لنا مظاهر العنف التي اكتسحت جميع المجالات تقريبا القول أن القواعد الأخلاقية والقانونية المنظمة للحياة الاجتماعية في تونس فقدت قدرتها على التأثير وضبط السلوك الفردي والجماعي؟ وإذا كانت الإجابة بنعم، كما يبدو للوهلة الأولى، فما هي حدود القبول بهذه الفرضية؟ بمعنى هل يُردُ ضعف فاعلية هذه القواعد إلى فسادها؟ أم إلى خلل تربوي وبيداغوجي شوهها ودفع الأفراد والجماعات إلى رفضها وعدم الالتزام بها.؟
تحتاج الإجابة الموضوعية على هذه الأسئلة اتخاذ العديد من المحاذير لعل أهمها تجنب التعميم. ففي ما يتعلق بالعنف في المجال الرياضي لا يمكن الجزم أنه نتيجة مُباشرة لفساد القوانين والقواعد الأخلاقية المنظمة له، فنحن لم نسمع من عبر من سُخطه من قوانين اللعبة ولاعن رغبته في تغيير مبادئ الميثاق الرياضي. على العكس من ذلك فإن اللاعبين والجمهور والمدربين والمسيرين غالبا ما يعبرون عن اعتذاراتهم عمّا صدر عنهم من عنف مادي ولفظي وسلوك مُنافي للأخلاق والقوانين بمجرد خُروجهم من الملعب. ينطبق هذا الأمر على الناشطين على شبكة التواصل الاجتماعي الذين لا يزالون ينشرون الكلام الفاحش والصور الهاتكة للأعراض بأسماء مُستعارة، وهذا يعني أنهم يتحرجون أخلاقيا في حال كُشفت هوياتهم الحقيقة مما يُفيد أن تمثلهم للقواعد الأخلاقية والقانونية التي يسير عليها المجتمع لا يزال ساريا.
وإذ كان الوضع على هذا النحو، فمن غير الجائز القول أن المجتمع التونسي يعيش حالة لا معيارية شاملة. فعلى الرغم من تواتر حالات عدم الالتزام بالقانون وبالقواعد الأخلاقية المنظمة للمجتمع، فإن ذلك لا يزال محدودا في الزمان والمكان ومحل إدانة من الجميع تقريبا .ولذلك فبدل الحديث عن حالة لا معيارية شاملة يعيشها المجتمع التونسي يُمكن القول أننا إزاء فضاءات لا معيارية (الملاعب، الشوارع , الساحات العامة،الأنترنات..) يُسمح فيها للأفراد بفعل
وقول كل ما هو غير مسموح به خارجها. وهذا يُفيد أن المجتمع التونسي يُقسم فضاءاته إلى قسمين اثنين:

القسم الأول: يحرص فيه المجتمع على تطبيق قواعده الأخلاقية والقانونية ويُلزم الأفراد بالخضوع لها. وفي القسم الثاني يتغافل عن مظاهر خرق هذه القواعد ويتسامح مع مُرتكبيها ممّا يشجعهم على عدم الالتزام بها، وبالتالي يحفزهم على مُمارسة العنف.
يدفعنا هذا الوضع إل طرح السؤال التالي: ما هو منشأ هذا التقسيم؟ وما هي العوامل التي رسّخته كتصور يحكم نظرة الأفراد للفضاء الاجتماعي؟
ليست هناك إجابة قطيعة، إلاّ أننا نرجح أن تكون التنشئة الأسرية خاصّة والتربية الاجتماعية عامة هما منشأ هذا التقسيم , و بهما يمكن تفسير الكثير من مظاهر عدم الالتزام بالقواعد الأخلاقية والقانونية في الفضاءات ألا معيارية . قد يكون من الغريب أن يتصرف المجتمع على هذا النحو، إلا أن الواقع يثبت أن تلك هي الحقيقة. فالعائلة كمؤسسة للتنشئة والتربية الاجتماعيتين تفرض على منظوريها قواعد أخلاقية وسلوكية و تحرص على أن يلتزموا بها في إطارها في حين تتسامح معهم في حال انتهاكها خارجها. فالعنف و الكلام البذيء والفاحش ممنوع داخلها مسموح به ، إلى حد ما , في الشارع والساحات العامة والملاعب… لنضرب أمثلة في هذا الصدد. فزوجتي حين يضيق صدرها بهرج أطفالي وخوفا على تُحفها التي تقول أنها ثمينة تأمرهم بمغادرة المنزل واللعب في الشارع من دون أن تكترث بأن ذلك قد يتسبب في إلحاق الضرر بممتلكات الغير أو يٌقلق راحتهم. وما أريد أن أصل إليه هو أن أطفالي بدؤوا في بناء تصور خاص بهم مفاده أن ما هو ممنوع داخل المنزل مسموح به خارجه. سنصاب بالدهشة، وربما يكون الأمر عاديا، عندما نكتشف أن مثل هذا التصور لا يقتصر على الأطفال، فكاتب هذه السطور ينتمي إلى فئة المدخنين، يشعر، ربما لأنه كان طفلا يوما ما، أن منع التدخين في الفضاء العام فيه شيء من الانتهاك لحقوقه ولعلك تشاطره نفس الشعور إن كنت مُدخننًا.
ليس هناك من شك في أن مثل هذا الشعور يخفي تصوّرا لدى الكبار مفاده أن الفضاء العمومي مَجال مُناسب لممارسة الممنوعات وإن كنت مُشككًا في هذا الأمر، وكانت شرفة منزلك تطل على ساحة عمومية أو شاطئ، فيُمكنك أن تُشاهد صُحبة أطفالك جلسات غرامية ولن يكون بوسعك في هذه الحالة، إن كنت معترضا على مثل هذه المشاهد، إلا أن تغلق النافذة، وتحرص على أقناع أطفالك، بعد أسئلتهم المحرجة، بأن ذلك السلوك لا يأتيه إلاّ أولاد الشوارع وبناته”.
إننا إذًا إزاء حقيقة أن عدم التزام الأفراد، بالقواعد الأخلاقية والقانونية، في الفضاء ألا معيارية، والذي يؤدي عادة لممارسة العنف لا يمكن تفسيره بسوء تربية وانعدام الأخلاق الحسنة لدى بعض الأفراد. على العكس من ذلك يمكن القول أنه نتيجة لتربية خاصة تُجيزُ للأفراد القيام بمثل هذه الممارسات في الشوارع والسّاحات العامة والملاعب… بالفعل فالكثير من مظاهر العنف التي نشاهدها في الملاعب الرياضية مثلا، والتي يقوم بها الأحداث والشبان والآباء، غالبا ما تصدم أفراد العائلة، الذين يجدون صعوبة في تقبل حقيقة أن أبناءهم أو آباءهم أتوا أفعالا مُشينة. وكيف لهم أن يتقبلوا ذلك وهم على بينة أنهم على درجة عالية من التربية والانضباط داخل العائلة!! غير أن هذه الصدمة لا أثر لها على سُلوك الأفراد طالما أن التربية الاجتماعية تجيز وُجود هذه الفضاء ألا معياري بل وترسخه في أذهان الجميع، من خلال تلك التفسيرات الرائجة لظاهره العنف و التي تذهب، إلى أن الفرد، وبسبب ما يتعرض له من ضغوط وإكراه، وضوابط أخلاقية وقانونية، يميل إلى البحث عن فضاء تنعدم فيها مثل هذه الضوابط، أو يسمح له بانتهاكها . وهكذا صَارَ يُنظر إلى الشارع والملاعب، والانترنيت… على أنها فضاء مُناسب للتصعيد [9]. من ذلك أن مُمارسة الرياضة مثلا، في تصور الكثيرين ليس أكثر من تفريغ لشُحنات الطاقة الزائدة عن الحاجة في جسم الفرد ولذلك يُنصحُ بها طُبيّا للأطفال المُشاغبين وكثيري الحركة .
ومع أن هذا التصور غريب، فإنه لا يزال فاعلا، فالرياضة عند هؤلاء تكاد تكون مُرادفة لمُمارسة العنف “المنظم” والمؤقت”. من الواضح أننا إزاء فهم خاطئ ومُبسط لمدرسة التحليل النفسي التي ابتكرت فكرة التصعيد فالمُختصون على علم بأن التعديلات التي أخضعت لها هذه المدرسة قادت إلى نتائج ذات مغزى لعل أهمها أن العدوانية لدى الإنسان ليست بالضرورة ردة فعل على حرمان طفولي أو إكراه اجتماعي ذلك أن اشباع هذه الحرمان أو التحرر من هذه الإكراه، ليس كفيلا باستئصالها نهائيا [10]. وبقطع النظر عن وجاهة هذه التعديلات والمراجعات فإن تفسير العنف على أنه ردة فعل على إكراه اجتماعي واقتصادي وسياسي لا يزال يحظى بمصداقية في ظل غياب تفسيرات أخرى أكثر موضوعية.
غير أن تصاعد مظاهر العنف باسم النموذج المجتمعي، بين العلمانيين والسلفيين والحداثيين والإسلاميين، قد يدفع البعض إلى التشكيك في وجاهة القول أن هذه المظاهر ليست إلاّ نتيجة لوجود فضاءات لا معيارية وبالتالي يجيز التساؤل عم إذا كانت القيم والمبادئ والقوانين التي ينتظم وفقها المجتمع التونسي لا تزال محل إجماع وطني؟.و في ما إذا كان المجتمع يعيش فعلا حالة لا معيارية شاملة؟[11] ليس من السهل الحسم في هذه المسألة المعقدة، فالإجابة تحتاج إلى الكثير من التفصيل لا يحتمله المقام، إلاّ أن الإجمال قد يُفيد في هذا الصدد. يعلمُ الجميع، تقريبا، أن شريحة عريضة من السلفيين تحركهم فكرة أن المجتمع التونسي بأخلاقه وقيمه وقواعده القانونية حاد عن المناهج الإسلامي، وأن الكثير من مظاهر الحداثة والمعاصرة والتفتح التي يعيشها، ليست أكثر من شبهات أكره عليها يجب تجُنبها . [12] ليست هذه الفكرة جديدة، فقد كانت محل جدال سياسي وثقافي منذ القرن التاسع عشر، ممّا يعني أن الأخذ بمظاهر المعاصرة والحداثة لم يكن سهلاً ولا بلا ممانعة، فلقد عبرت الشرائح المحافظة عن اعتراضها منذ البدء. و هذا ما لا يترك مجالا للشك في أن الخيارات الحداثية للدولة الوطنية، إثر الاستقلال، لم تكن محل إجماع، وليس من المستبعد أن تكون فرضت على الشعب فرضا بكثير من الإكراه النفسي والتربوي والإجراءات التنظيمية والقانونية.[13 ] وربما لهذا السبب لم يكن مُفاجئا، أن يظهر اليوم من يُطالب بإعادة النظر في هذه الخيارات من أجل تصحيح المسار باعتماد نفس الوسائل والطرق. كما لم يكن مُستغربا أي يتركز مطلب التصحيح على المجالات التي باشرت الدولة الوطنية بتحديثها وتعصيرها: (القانون، التعليم الأحوال الشخصية .و يمكن القول أن الجدل الدائر حول النموذج المجتمعي ليس نتيجة لانقسام اجتماعي حقيقي، بقدر ما هو نتيجة لتصور نخبوي فوقي وقاصر، يرى المجتمع مُجرد قطعة من الطّين قابلة للتشكيل وإعادة التشكيل… ولقد قاد هذا التصور إلى تشويه المجتمع التونسي إذ أُجبر في حقبة بورقية وبن علي على تبنّي مظاهر “حداثية” كاذبة وزائفة وليس من المستبعد أن يدفع اليوم إلى تبني مظاهر ‘إسلامية” فيها الكثير من النفاق والريّاء. ومهما يكن الأمر، وبما أننا نستبعد فرضية أن تكون ظاهرة مُمارسة العنف المادي واللفظي، بحجة الدفاع عن نموذج مُجتمعي ما ناتجة عن انشطار المجتمع التونسي إلى قسمين: علماني حداثي / إسلامي تقليدي فإننا نميل إلى تفسير استفحال هذه الظاهرة بوجود الفضاءات ألا معيارية التي يُسمح فيها للأفراد والجماعات بقول وفعل ما يريدون من دون الاكتراث بالمشتركات الاجتماعية والأخلاقية والوطنية… بينة ذلك أن الصراع حول النموذج المجتمعي والذي أخذ أبعادا عنيفة، دار، ولا ينزل يدور في الساحات العامة والشوارع أي خارج الأطر الرسمية والشرعية، كالأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية التي نأت جميعها بنفسها بعيدا عن مثل هذا الصراع إمّا تعففا أو تربصا . قد نكون أقمنا الحجة على أن الكثير من مظاهر العنف في المجتمع التونسي سببُها قبول المجتمع بوجود فضاءات لا معيارية، يتحرر فيها الأفراد من أغلب القواعد الأخلاقية والقانونية السّاري بها العمل. ونحن على قناعة بأن استفحال ظاهرة العنف في المجتمع التونسي يمكن تفسيرها باتساع نطاق هذه الفضاءات، التي شملت المدارس والكليات وحتى الإدارات والمصانع والشركات بعد أن كانت تقتصر على الشوارع والسّاحات العامة والملاعب.

ثانيا – مجموعات خفية وعُنف خارج المسؤولية:

لقد أفضى وجود الفضاءات ألا ّمعيارية، التي يُسمح فيها للأفراد بمُمارسات مُتحرّرة من القواعد الأخلاقية والقانونية إلى بروز ظاهرة جديدة تمثلت في تكوّن “تنظيمات خفية” اصطلح على تسميتهما بـ””المجموعات” Groupe. [14] وبما أن هذه المجموعات تنشط في فضاءات ألا معيارية، فإن تشكلها وانتظامها واشتغالها لا يخضع إلى أي نوع من الضوابط التنظيمية المتعارف عليها، لذلك، وعلى عكس التنظيمات الرسمية، فإنها تكاد تكون مجهولة لدى الجميع، إذ نحن لا نعرف على وجه الدقة كيفية تشكلها ولا طرق اشتغالها وإفراز قياداتها، ولا حتى الأهداف التي تنشط من أجل تحقيقها، وهذا تحديدا ما يجعلها مجموعات خفية، مُبهمة وعصية عن الفهم، ومن ثمّ يصعب التنبؤ بسلوكياتها ورُدود أفعالها، وبالنتيجة يتعذر التحكم فيها.
غموض في البنية و التراتبية الداخلية، إذ يتعذر التمييز بين القيادة والأتباع أو الأنصار.ومع أن هذه المجموعات خفية فإننا سنحاول تعريفها من خلال تحديد أهم الخصائص التي تميزها عن سائر المجموعات الأخرى التي اصطلحنا على تسميتها بالرسمية” تتمثل هذه الخصائص اجمالا في:
لا مركزية في تحديد الأهداف والوسائل واتخاذ القرارات. ممّا يسمحُ بسهولة تغيير القيادة أو استبدالها بأخرى.
إن انتفاء شخصية الفرد داخل المجموعة أمر معروف إلاّ أن هذا الانتفاء يكون أكثر حدة داخل المجموعات الخفية،لأن الفرد المنتمي إليها، وبقطع النظر عن المكانة التي يحتلها في تراتيبتها الداخلية، يشعر، وبسبب غموض هذه التراتبية، أنه ليس خاضعا لأي ضبط أو أوامر خارجية، ممّا يولد الإحساس لديه بأن له مسؤولية شخصية في إنجاح عمل المجموعة وتحقيق أهدافها. إن تمثله الطوعي لهذه الأهداف يجعله مناضلا بالمعنى الحقيقي للكلمة، أي له استعداد للتضحية وبذل النفس والمال من أجل تحقيق أهداف المجموعة. وهذا تحديدا ما يفسّرُ إقدامه على القيام بأعمال، ستبدو للملاحظ أشبه ما تكون بالمغامرة.
أن تجريم الفرد على جملة الأفعال التي يقوم بها داخل المجموعة الخفية لا أثر له على السلوك العام للمجموعة، إذ سرعان، وبسبب الانخراط الطوعي والسهل فيها ما يتم تعويضه بآخر ممّا يجعل المجموعة مفتوحة للخارجين منها اضطرارا وللداخلين إليها طوعا. وهذا يعني أنها لا تضم في صفوفها إلا الأفراد الأكثر التزاما بأهدافها والأشد حرصا على تحقيقها.
سهولة تفصي الفرد من المسؤولية عن الأفعال التي يقوم بها داخل المجموعة. حيث يصعب إقامة الدليل على انخراطه الفعلي في هذه المجموعة أو تلك.
بناءا على هذه التحديدات العامة يمكن القول أن ظاهرة تكوين المجموعات الخفية في تونس اكتسحت جميع المجالات تقريبا: السياسية والاجتماعية والرياضية. وكان من نتائجها أن تحول العنف الفردي في الفضاءات ألاّ معيارية إلى عنف جماعي، مُنظم وواعٍ وبالتالي أكثر حدة وتأثيرًا. الأمثلة في هذا الصدد كثيرة ولذلك سنقتصر على ذكر نموذجين إثنين لهذه المجموعات الخفية الأول يتصل بالمجال الرياضي وينشط في مدرجات الملاعب الرياضية، أما الثاني فيتصل بالمجال السياسي والثقافي ويتخذ من شبكات التواصل الاجتماعي فضاء للمزاولة نشاطه. ففي المجال الرياضي يمكن مُلاحظة تحول الجمهور الرياضي ذُو الروابط الضعيفة والوقتية إلى جماعة مُنظمة وشديدة التضامن. ولعل المُواجهات الحقيقة بين الجماهير وقوات الأمن والاعتداءات المتكررة على الممتلكات العامة والخاصة، داخل الملعب وخارجه، لا تترك مجالا للشك في أننا إزاء مُمارسات مُمنهجة لا يمكن أن تصدر إلا عن جماعة مُنظمة ومُتضامنة. إن وُجود هذه المجموعات الخفية ليس استنتجا محضا. فقد عبر الكثير منها عن وجوده الفعلي تحت مُسميات عديدة. نذكر البعض منها: البريقاد روج …باردو بوبر ..الأولترا والسوبرا …القايترز …الوينرز ..
إن تحول الجمهور الرياضي إلى جماعة كالتي أتينا على ذكرها، هو المقدمة المنطقية المفسرة لظاهرة استفحال العنف في الملاعب الرياضية . [15] فلقد انتقلنا من عنف فردي يسهل التحكم فيه إلى عنف جماعي مُبرمج ومُنظم. وهو أمر أشبه بتحول الماء الذي يُمكن التحكم فيع وتصريفه الوجهة التي نريد إلى كتلة ضخمة من الجليد يصعب مُواجهتها. وهذا تشبيه يُدرك معانيه جيدا عُلماء الاجتماع وكوادر الأجهزة الأمنية، فمن المعروف لديهم أن التحكم
في جمهور رياضي، وبسبب ضعف الروابط بين أفراده وتدني مُستوى التضامن بينهم، أيسر عمليا، ونظريا من التحكم في جماعة مُترابطة وشديدة التضامن. بالفعل فقد قاد تحول الجمهور إلى ما يُشبه التنظيم إلى استفحال مُمارسة العنف في الملاعب الرياضية وجعلها أكثر حدة لأننا، ببساطة انتقلنا من عنف أشبه ما يكون بالهيجان إلى عنف مُنظم تتوفر فيه جميع عناصر المواجهة والتحدي: القصدية، التخطيط، و التنفيذ…[13
وإذا كان الأمر على هذا النحو، فمن الذي سَمح بتشكيل هذه المجموعات؟ وكيف استطاعت أن تكتسح جميع النوادي الرياضية ؟ ولماذا استعصت عن التأطير والتنظيم؟
لا تبدو الإجابة سهلة، خصوصًا ونحنُ إزاء مجموعات خفية. إلاّ أن ما قدمته هذا والمجموعات، من مشاهد فرجوية قد يكون هو السبب الرئيسي في القبول بها. فلقد شاهدنا لافتات مُوحدة وإخراج فرجوي غاية في الإتقان!! وما زاد في إعجاب الكثيرين هو أن كل هذا كان نتيجة لعمل تطوعي، لم يبخل القائمون به بمالهم العزيز ولا بوقتهم الثّمين. وفي ظل هذا الإعجاب الذي بلغ حدّ الذهول تُرك القانون جانبا فما من أحد تساءل عن كيفية تَكَوُن هذه المجموعات ولا عن طريقة اشتغالها وإفراز قياداتها ولا عن الجهة الممولة لها؟! .
و مع أن هذه المجموعات تورطت في العديد من أحداث العنف فإن المتابعين للنشاط الرياضي لم يوجهوا لها أصابع الاتهام.بل و على العكس من ذلك تم التأكيد في أكثر من مُناسبة على أن أفراد هذه المجموعات لهم ثقافة عالية ودرجات علمية مُعتبرة، وهو تأكيد، يهدف ضمنيا إلى تبرئة ساحتها من العنف الذي نشاهده داخل الملعب وخارجه، من خلال ترسيخ تصور عام مفاده أن العنف لا يصدر إلاّ عن شخص ضعيف التحصل العملي. من الصعب القبول بمثل هذا التصور، فما من أحد يمكنه أن يُقيم علاقة سببية قطعية بين درجة التحصيل العلمي للفرد ومُمارسته للعنف.
أما في ما يخص المجموعات الخفية المتصلة بالمجال السياسي والثقافي فقد تضاعف عددُها وتطور نشاطها منذ العام 2011، ولعل المُساهمة الفعالة للبعض منها في إسقاط نظام بن علي جعلها محل ترحيب من قبل الجميع تقريبا. ويُمكن للمتتبع لهذه المجموعات أن يلاحظ أنها تنشط بشكل خفي، تحت أسماء مُستعارة، و وجدت في الفضاءات ألا معيارية مجالا مُناسبًا لمُزاولة نشاطها بكل حرية، من دون الالتزام بالضوابط القانونية والأخلاقية المتعارف عليها داخل المجتمع. وليس هناك من شك في أن البنية التنظيمية الخفية لهذه المجموعات وخلو الفضاءات التي تنشط فيها من القواعد القانونية والضوابط الأخلاقية هما اللذان شجعا المنتمين إليها على مُمارسة العنف اللفظي والمادي، الذي بلغ حد هتك الأعراض وتأليب الرأي العام على البعض من القوى السياسية والاجتماعية وتهديد النظام العام.و لقد صُنفت هذه المجموعات إلى :
_ مجموعات سلفية
_مجموعات علمانية
_ مجموعات تُحسب على قوى سياسية ( النهضة مثلا أو اليسار )

وبقطع النظر عن وجاهة هذا التصنيف فإنه أشبه ما يكون بمُحاولة تعريف الشاهد بالغائب، ولذلك فهو لا يفيد كثيرا في فهم أسباب مُمارسة هذه المجموعات للعنف إن لم يعمل على إخفائها بجعلها مجرد مليشيا تأتمرُ بأوامر قوى سياسية واجتماعية معلومة للجميع . [16] قد يكون الأمر كذلك من وجهة نظر تستبعد فرضية وجود مجموعات خفية تنشط باستقلالية عن هذه القوى. ومهما يكن الأمر فإن كل الاحتمالات مُمكنة, غير أن البنية غير المرئية لهذه المجموعات وشبكة العلاقات الخفية التي تربط بين مُكوناتها وطرق التواصل المبهمة فيما بينها، ترجحُ جميعُها فرضية أننا إزاء مجموعات خفية بالفعل وأنها أكثر من مجرد مليشيات تنشط لصالح قوى سياسية واجتماعية رسمية . وما يعزز هذه الفرضية هو أن الاحتجاجات التي رافقها الكثير من العنف بمُناسبة عرض فيلم “لا ربي لا سيدي” في جوان 2011. والفيلم الكارتوني برسيبوليس في أكتوبر من نفس العام ومُظاهرة نصرة الشريعة في مارس 2012 رادًا على رسم نجمة داوود على جامع الفتح بتونس وتدنيس المصحف الشريف في الجنوب، إلى جانب احتجاجات جوان 2012 ضد الصور المعروضة في قصر العبدلية، والتي قيل أنها مُسيئة للإسلام، إضافة إلى اقتحام السفارة الأمريكية في تونس يوم 14 سبتمبر 2012 ردًا على الفيلم المُسيء للرسول الكريم. أن كل هذه الاحتجاجات، ومن دون استثناء تقريبا، وقعت الدعوة إليها وتنظيمها وحشد الناس لها عبر شبكات غير رسمية (الفايسبوك) والعلاقات الشخصية. وليس هناك، على حد علمنا، من قوة سياسية أو اجتماعية واحدة رسمية ومعترف بها، انخرطت بشكل علني في هذه الاحتجاجات سواء من جهة الدعوة لها أو تنظيمها. ولعل المحفزات الدينية لهذه الاحتجاجات هي التي تدفع البعض إلى الاعتقاد أن الأحزاب ذات الخلفية الإسلامية كحركة النهضة وحزب التحرير… لها يد فيها. ليس هناك من سبب موضوعي للقبول بمثل هذا الرأي فحركة النهضة لا يمكن أن تسقط في فخ إثارة القلاقل لحكومة تقودها حينها.
والتي بلغت حد اتهام أحد وزرائها بالتقصير والفشل الأمنيين. وهذا سبب كافٍ للقول أن هذه الاحتجاجات خارجة بالفعل عن سيطرتها وأن مُساهمتها فيها لا تزيد عن المسايرة والمداهنة لقوى فاعلة ميدانيا لا تجد حرجًا في اتهام الحركة والحكومة معًا بالتقصير في الدفاع عن الشريعة ونصرة الإسلام. بناءا على ما سبق يُمكن نسبة هذه الاحتجاجات وما صاحبها من عنف إلى مجموعات تنشط باستقلالية عن الأحزاب الرسمية، بل بالرغم عنها. و قد تكون هذه المجموعات ذات خلفية دينية كما يمكن أن تكون إجرامية تسعى إلى إثارة الفوضى من أجل التغطية على عمليات النهب والسلب التي تقوم بها.
إن البحث عن الأسباب التي تدفع المجموعات، سواء منها التي تنشط في المجال الرياضي أو السياسي…. إلى مُمارسة العنف، لا يجب أن يقتصر على تحليل شخصية كل عضو فيها بل يجب أن ينظر أساساً في كيفية انتظامها وطرق اشتغالها وشبكة العلاقات التي تُنسج بين مُكوناتها. لذلك فنحن نميل إلى الأخذ بما ذهب إليه أصحاب “نظرية الثقافة” حين أكدّوا على أنه “على نحو مما يُنتظم الناس فسوف يتصرفون”. وأن “التنظيم الذاتي من دون ضوابط يؤدي إلى الفوضى” .[17] هذه قاعدة مهمة للتفسير, فمثل هذه المجموعات وبقطع النظر عن مدى التزام أفرادها بالقوانين والقواعد الأخلاقية، انتظمت ذاتيا وخارج القانون ولذلك فمن البديهي أن تَكون مُمارستها خارج القانون هي الأخرى.
إن المشاهد الفرجوية المتقنة التي تابعناها على المدرجات الرياضية أو تلك الاحتجاجات شديدة التنظيم التي عايشناها في الشوارع والساحات العامة لم تكن إلاّ واجهة تخفى وراءها مُقومات فوّضى عارمة: عنف منظم وشعارات وأناشيد فيها الكثير من الكراهية والجهوية وحتى العنصرية… لذلك علينا أن نقر من هنا فصاعدا بحقيقة أن القبول بانتظام الأفراد ذاتيا وخارج الأطر القانونية هو المتسبب في استفحال ظاهرة العنف، التي صدمت الكثيرين ومكنتهم من ملاحظة أن الماء السائل تحول فعلا إلى كتلة من الجليد يصعب التحكم فيها.

ثالثا– الرهانات المدمرة: الجمعيات الرياضية والأحزاب والمنظمات الوطنية

من مُواجهة العنف إلى دعمهِ:

سيكون من المستغرب القول أن الأحزاب السياسية والجمعيات الرياضية والمنظمات الوطنية تدعم العنف بدل مُواجهته، فهذا يتعارض مع الغاية من وُجودها. إلاّ أننا نجد من القرائن الدالة على ذلك. فالكثير من هذه الهيئات تقبل اليوم بالعنف وتستحسنه وتبحث له عن مُسوغات ومُبررات. ولأن هذا المنحى غريب فعلا عن أهدافها ومُخالف للقوانين والمبادئ التي تحكمها، فإنه من الضروري فهم أسبابه ودواعيه.
فهل يتعلق الأمر بعجز هذه الهيئات الرسمية على التأطير والتنظيم؟ أم أن المسألة مرتبطة بإحساسها بظلم مسلط عليها يتعذر رفعه إلاّ بممارسة العنف؟
أم أن الأمر يتعلق بالبنية التنظيمية لهذه الهيئات ونوعية الروابط التي تجمع بين أعضائها، والتي قد تدفعها إلى استحسان العنف وإضفاء الشرعية عليه؟
ستمكننا الإجابة عن هذه الأسئلة من تحديد نسبة مٌساهمة، الهيئات الرسمية (الأحزاب، الجمعيات الرياضية، المنظمات الوطنية) في ظاهرة استفحال العنف في المجتمع التونسي كما تسمح لنا بفهم الأسباب الكامنة وراء هذه المساهمة.
تُجيز لنا مظاهر الفوضى العارمة، في المجال السياسي والرياضي والاجتماعي القول أن الجمعيات الرياضية والأحزاب والمنظمات الوطنية عاجزة اليوم فعلاً عن تنظيم أنصارها والتحكم فيهم. وقد تجد هذه الهيئات في ظهور المجموعات الخفية التي تنشط باستقلالية عنها، وترسُّخ القناعة لدى الكثيرين بوجود فضاءات لامعيارية، ما يُعفيها من المسؤولية المباشرة على أحداث العنف، غير أن مُسايرتها لهذه الأحداث واضفاء الشرعية على البعض منها، لا يُلغي مُساهمتها فيها، وإن بِشكل غير مُباشر. ولفهم الأسباب الحقيقية لهذه المُساهمة غير المنتظرة، يجب أن نَكُفّ عن توجيه الاهتمام صوب السياسات الفوضوية أو غير المسؤولة لأعضاء الجمعيات أو الأحزاب أو المنظمات. فهذا اتهام أكثر منه تفسير، وأن نحرص بدلا من ذلك، على توجيه اهتمامنا نحو البنية التنظيمية لهذه الهيئات ونوعية الروابط التي تجمع بين أعضائها وأهدافهم النهائية، التي قد تُفسر لنا قبولهم بالعنف واستحسانهم له.
يعلم الجميع أن الانخراط في الأحزاب والجمعيات والمنظمات يكون إراديا، وهذا يُفضي عمليا إلى المساواة المطلقة بين أعضائها، إذ وعلى الرغم من أن جميع هذه الهيئات تنتظم وفق قوانين داخلية تحدد مسؤولية كل عضو فيها وتراتبيته، فإن الشعور بالمساواة يبقى ساريا بفعل الصّفة التطوعية للانخراط والنشاط. ومن ثمة فإن قبول الأعضاء بالتراتبية التي يحددها القانون الداخلي والتزامهم بها يكون في الغالب إراديا. ومن دون اكراهات. ينشأ عن مثل هذه الوضعية شكل من الجماعات تَخضع “لمنط حياة مُساواتي”[18] يتميز بشعور أعضائه بالمساواة المطلقة فيها بينهم تغييب فيه التراتبية الصارمة لضعف فاعليتها، ذلك أن الإكراه والإلزام لا يفيدان كثيرا في تنظيم يقوم على أساس التطوع.
ما يهمنا في هذا الصدد هو النتيجة. فالمساواة بين أعضاء الحزب أو الجمعية أو المنظمة الوطنية، وضُعف التراتبية الداخلية يفضيان في الغالب إلى تدني مستوى الالتزام وارتفاع حدة المنافسة بين الأعضاء على القيادة والنفوذ. ممّا يؤدي إلى تهديد وحدة التنظيم. ولتجنب الوقوع في مثل هذا المأزق يعتمد الأعضاء على أحد الخيارين التاليين: يتمثل الأول في العمل على خلق تراتبية داخلية صارمة وإلزام الجميع بالخضوع لها. إلا أن هذا يؤدي إلى تفشي ظاهرة العزل والإقصاء والانشقاقات. لذلك نادرًا ما يتم اللجوء لهذا الخيار إلا في الهيئات التي تتوفر على قيادات ذات نفوذ رمزي على جميع أعضائها. أما الخيار الثاني فيتلخص في لجوء الأعضاء إلى ابتكار استراتجية، تتمحور أساسا حول نشر الاعتقاد المشترك في “المؤامرة الخارجية” ممّا يسمح لهم بالحد من صراعاتهم الداخلية ومزيد توحيد جهودهم في مُواجهتة العالم الخارجي الشرير.[19] يُمكن للمهتم بالنشاط السياسي والرياضي والاجتماعي أن يُلاحظ أن هذه الإستراتجية قيد التطبيق اليوم في تونس. فكلما دب الخلاف بين أعضاء التنظيم الواحد كلما تكرر استخدام فكرة “المؤامرة الخارجية” بوتيرة أسرع. وذلك من أجل ترسيخ انطباع مفاده أن تنظيمهم مُهدد من الخارج ممّا يحتم على مُنتسبيه وأنصاره مزيدا من التضامن والوحدة لمواجهة هذا التهديد. ومن المؤكد أن أعضاء هذه التنظيمات على بينة من أن نجاح استراتجيتهم سيكون رهين قدرتهم على تعزيز شعور أنصارهم بالظلم والحيف والقهر المسلط عليهم من الخارج، وإذكاء كرههم ونقمتهم على المتآمرين على وحدة تنظيمهم وأهدافه. هنا تحديدا تتكشف لنا المساهمة الخفية لهذه التنظيمات في العنف المستشري في المجتمع التونسي إذ تنقلب فجأة مهام أعضاء الجمعية والحزب والمنظمة الوطنية، إلى مهمة تحريضية بامتياز، حيث تتم تعبئة الجمهور الرياضي والمناصرين السياسيين والمتعاطفين، كما في حالة الحرب، لا لممارسة نشاط رياضي أو سياسي أو اجتماعي وفق الضوابط القانونية والأخلاقية، بل من أجل مُواجهة المؤامرات الخارجية، بكل الوسائل والطرق. لنا أمثلة كثيرة في هذا السياق، فالعديد من قيادات الجمعيات الرياضية يلجؤون من أجل الحفاظ على وحدتهم وتضامنهم، إلى ابتكار آلية “صناعة البغض والكره” ويحرصون على نشره في صفوف الأحباء والمتعاطفين وتوجيهه إلى أولئك المتآمرين. لقد سمعنا وقرأنا العديد من تصريحاتهم في هذا المعنى. مثل “أخطاء الحكام تُثير حفيظة الجمهور…”، “الكثير من الأطراف تكرهنا ولا تُريد لنا النجاح..”، “أعضاء الجامعات الرياضية يُمارسون سياسية المُحاباة والجهوية…”.
لقد إنحرط العديد من المحللين الرياضيين والصحفيين وحتى السياسيين، ربما بعفوية، في الترويح لمثل هذه الإدعاءات. ولم يدركوا أن ذاك، لا يخدم إلا أعضاء الجمعية الذين يُجيدُون إلقاء المسؤولية على الآخرين. ويشجع الجماهير الرياضية على مُمارسة العنف بمُبرر مُواجهة المظالم سنجد استخداما شبيها لفكرة المؤامرة في المجال السياسي والاجتماعي أيضا خُصوصا بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011 ولنفس الأغراض تقريبا. من ذلك أن التصدع الذي عرفه كل من حزب التكتل من أجل العمل والحريات، والمؤتمر من اجل الجمهورية، دفع قياداتهما إلى التنبيه إلى وجود مؤامرة تحاك ضدهما كما أن حركة النهضة وباعتبار الصعوبات التي واجهت الحكومة التي شكلتها لم تتردد في ترويج فكرة أنها تتعرض إلى مؤامرة تحاك في الخفاء بغاية الإطاحة بالحكومة والانقلاب على الشرعية. أما الاتحاد العام التونسي للشغل فلم يجد من ردٍ مُناسب على اتهامه بالتحريض على الاعتصام و الإضراب والاحتجاج سوى التأكيد في أكثر من مرة على أنه مُتماسك وقوي، في إشارة إلى أن المتآمرين عليه وعلى دوره ومكانته، سيفشلون في النهاية. وبقطع النظر عن وجاهة هذه الاتهامات المتبادلة فإن دوافعها لا تخفى على أحد إنها , باختصار مُحاولة للحفاظ على وحدة التنظيم وتماسك مُكوناته من خلال ابتكار أعداء خارجيين، من جهة، وعمل استباقي لمُواجهة أي تصدع داخلي مُحتمل من جهة ثانية. وما نريد التأكيد عليه في هذا السياق، هو أن الاستخدام المبالغ فيه لفكرة المؤامرة، ساهم إلى حد كبير في تأليب أنصار هذه التنظيمات السياسية والاجتماعية على بعضهم البعض، كما خلق مناخا مشحونا بالريبة والشك وانعدام الثقة دفع الكثيرين إلى التطوع لنصرة تنظيماتهم تلقائيا. فكان أن دُنست مقار نقابية وحُرقت مكاتب حزبية .
يمكننا بناءا على ما سبق أن بلورة استنتاجا عاما مفاده أن الجمعيات الرياضية والأحزاب والمنظمات الوطنية استخدمت فكرة المؤامرة من اجل الحفاظ على وجودها وفرض تصوراتها من خلال حشد الأنصار وتجييشهم ضد المُنافسين لها. ولئن كانت هذه الإستراتجية فعالة في تحقيق هذه الأهداف، فإن لها نتائج عكسية غاية في الخطورة كما أسلفنا الذكر.

رابعا : العُنف خيار فردي: القبول بالمبادئ المنظمة ورفض التطبيقات

عالجنا في الفقرات السابقة مسألة العنف من زاوية كونها ظاهرة تحكمها اعتبارات اجتماعية، سواء من جهة المحرضات أو الدوافع أو من جهة الأطر التي تُمارس فيها. بقي الآن مُقاربة هذه الظاهرة من زاوية كونها محكومة بدوافع فردية، إذ يمكن للعنف أن يكون خيارا فرديا تحكمه المصلحة أو المنفعة الشخصية الخالصة.
وإذا سلمنا بوجود هذه الإمكانية فإن فهمنا للأسباب التي تدفع الفرد لممارسة العنف سيتوقف على مدى معرفتنا بمُحددات الفعل الفردي عامة . والتي انقسمت النظريات الاجتماعية، في شأنها إلى اتجاهين كبيرين، تفرع كل منهما تفريعات شتّى.

الإتجاه الأول: اصطلح على تسميته بالمنهجية الجمعية، من إعلامه أميل ديركايم الذي يرى أن أفعال الفرد ومبادئه وتصوراته هي نتيجة مُباشرة للتنشئة الاجتماعية وإكراهاتها التربوية والأخلاقية. فأنا على سبيل المثال يمكن أن أفسر احترامي لكبار السن بخضوعي في صغرى لتربية تُوقر الكبار وتُعلي من شأنهم. كما أن عادة التدخين التي أمارسها، وقد أحطكم علما بذلك، يمكن أن أفسرها بأن أبي كان مُدخنا وكذلك زُملائي الذين عشت معهم الفترة الطلابية. هذان مثلان يؤكدان أن أفعالي وقيمي ومبادئي ليست نابعة من إرادتي الفردية الحرة بل هي نتيجة لتمثلي لقيم ومبادئ ومعايير وعادات المجتمع الذي نشأت فيه
الاتجاه الثاني: اصطلح على تسميته بالمنهجية الفردية من أعلامه ماكس فيبر، اعتبر أن أفعال الفرد ومبادئه… صادرة عن اختياراته الفردية الحرة، وأنها ليست بالضرورة نتيجة للتنشئة الاجتماعية. الأمثلة الداعمة لهذا الاتجاه كثيرة. فنوح عليه السلام كان مُوحدا في حين كان ابنه مشركا. على خلاف ذلك كان إبراهيم عليه السلام مُوحدا في حين كان أبوه مشركا. وما نفهمه من هذا هو أن الأبناء ليسوا على دين آبائهم دائما وهذا يُفيد أن أفعال الفرد وعقائده وتصوراته اختيارية فهو يفعل ما يراه مُناسبا و يعتقد فيما يراه صالحا. ووفقا لهذا الاتجاه فإن مُمارستي لعادة التدخين ليس سببها أن أبي كان مُدخنا بل اعتقادي أنها تجسد حريتي واستقلاليتي. دليل ذلك أن اليوم الذي سأقلع فيه عن هذه العادة السيئة و عسى أن يكون قريبا، لن يكون خضوعا لإلحاح زوجتي وأبنائي ولا لنصائح الطبيب. بل لقناعتي الشخصي أنها مفسدة.
الاتجاه الثالث: يجمع بين الاتجاهين السابقين مع تغليب الأول على الثاني.
الاتجاه الرابع: يجمع بين الاتجاهين السابقين مع تغليب الثاني على الأول.
الاتجاه الخامس: يجمع بين الاتجاهين دُون المفاضلة بينهما. أي أنه يوازن بين المحددات الاجتماعية والاختيارات الفردية ” فإذا كان صحيحا أن الترتيبات المؤسسية تقوم، كما يجتهد أنصار المنهجية الجمعية لإثباته، بتحديد السلوك الفردي إلا أنه صحيح أيضا أن هذه الترتيبات قد أقيمت وعُدلت
من خلال فعل الفرد واختياراته . [20] وعلى أهمية الإرث المعرفي والمنهجي الذي تركته هذه الاتجاهات المختلفة. فإن الإجابة على سؤال: لماذا يمارس الفرد العنف؟ لا يزال محل اجتهاد الكثيرين. إذ لا أهمية لإجابة تقتصر على القول أنه نتيجة لتربية اجتماعية أو أنه مجرد خيار فردي. في هذا الاتجاه وبناءا على فرضية أن الفعل الفردي يمكن أن يكون خيارا فرديا، اقترح أصحاب “نظرية الثقافة” أن يتم تفسيره “بنمط الحياة الفردي” الذي يختاره الفاعل أو يجد نفسه منخرطا فيه. [21] يتميز هذا النمط عن سواه من أنماط الحياة الأخرى بكونه يجمع بين أفراد شديدي الإيمان بقدراتهم الذاتية، فهم على ثقة فائقة بمؤهلاتهم الذهنية والعملية لذلك فهم يتصفون عادة بالتحدي والمخاطر والمجازفة. وسواء انخراط الفرد طوعا في نمط الحياة هذا، أو وجد نفسه منخرطا فيه، فإنه سيكون مُدافعا مُثابرا على مجموعة من المبادئ،يعتقد أنها كفيلة بجعل المفاضلة بين الأفراد تقوم على أساس الجدارة والأهلية، مثل المساواة وتكافئ الفرص والعدل والحرية. ومن ثمة سيكون كل فرد مُنتسبًا إلى هذا النمط من الحياة من أشد أعداء أي نظام اجتماعي يتنكر لهذه المبادئ، ويُعامل الأفراد على أساس الولاء والقرابة والمحسوبية أو الواسطة والرشوة.
والأكيد أن هذا العداء لن يقتصر على التذمر من الظلم والحيف بل سيتعداه إلى القيام بممارسات عنيفة تهدف إلى إلزام الجميع باحترام مبادئ الحرية والمساواة والعدل وتكافئ الفرص . بل أن هذا العداء قد يأخذ شكلاً أكثر متطرفا: إنه الانتحار. إن إقدام الفرد على وضع حد لحياته، أو التلويح بذلك لأمر مُقزز اجتماعيا, غير أنه فعل بطولي من وجهة نظر أولئك الذين يشعرون أن المبادئ التي يؤمنون بها غير مُطبقة وأن الأمل في تطبيقها ضعيف.
وبقطع النظر عن موقفنا المبدئي من حالات الانتحار المتزايدة في تونس، ومن إضراب الجوع حتى الموت ومن الهجرة السرية عبر البحر التي تكتنفها مخاطر شتى بما في ذلك الموت غرقا, فإنه لا مناص من وضعها جميعًا في خانة العنف المسلط على الذات. إذ هي على الأرجح ليست تصرفا طائشا بقدر ما هي ردة فعل مُتطرفة على أوضاع تبدو للمجازفين بحياتهم أكثر تطرفًا , إلى حد يصبح فيه الموت أرحم من الحياة.
إن ما يدفع الفرد في تونس إلى الانتحار أو إضراب الجوع أو الهجرة السرية ليس كرهه للحياة بل خيبة أمله في تطبيقات قيم ومبادئ نشأ عليها واعتقد أنها كفيلة بتحقيق أهدافه . فلقد اعتمدت البلاد التونسية منذ زمن نمط حياة فردي يعلى من مبادئ المساواة والعدل وتكافئ الفرص والحرية… إلا أننا اكتشفنا بعد حين أن الواقع على عكس ذلك تماما إذ اعتمدت المحسوبية والرشوة و الوساطة والعلاقات الشخصيّة على نطاق واسع وكادت تُصبح من أهم القواعد المعتمدة في إدارة الشأن العام وتوزيع الثروة والمصالح والنفوذ…. فكان أن انتفض الشعب التونسي رافعا نفس الشعارات التي طالما تعلمها في المدارس و الجامعات: العدل، الحرية، المساواة، التوازن الجهوي، التنمية…. والملفت للنظر أن أغلب الأحزاب السياسية حرصت، بعد الإطاحة بنظام بن علي، على تأكيد أنها تمتلك القدرة والإرادة على تجسيد هذه الشعارات، لا من خلال إعادة النظر في المنوال التنموي والخيارات الاقتصادية والاجتماعية بل فقط من خلال القضاء على المحسوبية والرشوة وتفكيك منظومة الفساد.
لقد وقعت هذه الأحزاب، خاصة الحاكمة منها اليوم في نفس الخطأ الذي وقع فيه نظام بن علي. إذ هي لم تدرك أنها كلما رفعت في سقف انتظارات مُواطنيها، خيبت أمالهم أكثر. إنها لحقيقة ثابتة أن أغلب الذين تصدوا لنظام بن علي، ولا يزالون يتصدون لخيارات الحكومة المتلاحقة بعد الثورة بالانتحار والهجرة السرية وإضراب الجوع والاعتصامات ومُواجهة القوى الأمنية، لا يمكن تصنيفهم حزبيا، ومن البالغة القول أنهم يساريون أو قوميون أو سلفيون أو لبيراليون إنهم ليسوا إلا أفراد خاب أملهم في تطبيق العدل والمساواة وحق الشغل والتنمية.. ولأنهم يؤمنون بمثل هذه المبادئ فإنهم لا يزالون يرفعونها وينتفضون باسمها ومن أجلها. ومن ثمة فإن المعالجة الأمنية للعنف الذي يُمارسه هؤلاء خيار سيئ, لأنها ليست إلا تجسيدا لمعالجة فكرية أكثر سوءا ترى أن المطالبين بالعدل والمساواة والتنمية والتشغيل مجرد أذرع لقوى حزبية مُعادية للحكومة. إن أسوأ ما في هذه المعالجة هو جعل المطالبة بالحق جريمة، أو شكل من أشكال التآمر على الدولة والنظام,ممّا يؤدي عمليا إلى زيادة الاحتجاجات لا إلى الحد منها.
إذ سيلتحق بأفواج المحتجين من المعطلين والمفقرين، المنادين بحق التشغيل والتنمية، أفواجا أخرى من غير المعطلين و لا المفقرين المدافعين على شرعية هذه المطالب و على الحق في التظاهر والاحتجاج من أجل تحقيقيها. هكذا وبدَل أن تسعى الحكومات إلى التقليص من حدة هذه الاحتجاجات بتفهم دوافعها،
تزيدها زخمًا بالقول أن المحتجين فوضويون و أداوت تحركها أياد خفية، وإن المدافعين على شرعية هذه المطالب متآمرون.
ولعل مُمارسة الأفراد للعنف بحجة الدفاع عن مبادئ يؤمنون بها ويأملون أن ينتظم المجتمع وفقها، لا تقتصر على المجال الاجتماعي والاقتصادي. بل تنسحبُ أيضا على المجال الرياضي فاللاعبون وهم ليسوا فقراء بالتأكيد، يُمارسون العنف لنفس السبب تقريبا. لذلك فإن البحث عن الأسباب الحقيقية التي تدفع اللاعبين إلى مُمارسة العنف تجعلنا نستحضر فكرة نمط الحياة الفردي الذي اختاروه أو وجدوا أنفسهم مُنخرطين فيه . فعلى الرغم من أنهم في اللعبة الجماعية يمثلون فريقا مُتكاملا فإن ذلك لا يقلل من النزعة الفردية لدى كل واحد منهم، إذ غالبا ما يشعر اللاعب أن وُجوده في الفريق ليس منّة من أحد, بل هو نتيجة لقدراته الذاتية وانتظام مردوده و استجابته لخطط اللعبة ورسومها. ومن ثمة فإنه سيلتزم بالقواعد المنظمة للفريق وسيحرص على تطبيقها طالما شعر أنه يُعامل مثل غيره، على أساس العدل والمساواة والجدارة والكفاءة. أما إذا شعر بأن المسيرين الرياضيين والمدربين يُعاملون اللاعبين على أساس القرابة و الرشوة , فإنه سيكون مدفوعا تلقائيا لعدم الانضباط وبالتالي مُمارسة العنف. علينا أن نأخذ هذا بعين الاعتبار فاللاعبون الذين يُمارسون العنف المادي واللفظي في ملاعبنا ليسوا مغمورين في فرقهم بل هم من أهم أركانها الأساسية، إن لم نقل من أهم “نجومها” وما يدفعهم إلى مثل هذا الصنيع هو على الأرجح شعورهم بأنهم يتعرضون لحملة تشكيك في قدراتهم، واعتقادهم الثابت بضرورة الدفاع عن هذه المبادئ المنتهكة .

الخــاتـــمــة:

يسمح لنا هذا التحليل بالقول أن ظاهرة العنف ظاهرة مُعقدة تحكمها عوامل مُتداخلة نفسية واجتماعية واقتصادية وتنظيمية وسياسية… ممّا يجعل القائلين بوجود حُلول جاهزة لها مجرد أدعياء علم ومعرفة.
ومع ذلك فإن حماسة علماء الاجتماع والنفس وغيرهم لمعالجة هذه الظاهرة لا تنقطع إلاّ أن ثمار مجهودهم تقطف غالبا، في زمن لاحق. حيث يشهد المجتمع تحولات عديدة وترتيبات جديدة تجعل بعض المعالجات غير منطبقة مع الواقع. لا حلّ لهذا المعضلة سوى تطوير قدرتنا على الاستشراف والتنبؤ, وهذا ليس بالأمر الهين فمعرفتنا بتفاصيل المجتمع لا تزال مُبهمة فما بالك باستشراف مُستقبله. وإلى أن يتحقق ذلك لابد من التأكيد على حقيقة أن العنف الذي نحن بصدده، فعل اجتماعي وبالتالي فإن كرهنا له هو كرهُ لأفعالنا أيضا وهذه حقيقة لا يقرها البعض ممن يعلنون عداءهم للعنف و لا يعترفون بمُساهمتهم الفعالةُ فيه. إذ العنف ليس إلا نتيجة لفشل ما في التربية والتنظيم والإدارة ولذلك فالجميع شركاء فيه.
إن الاعتراف بهذه الحقيقة هي التي ستدفع الجميع إلى مُعالجة ظاهرة العنف بشكل مُختلف، فبدل الاقتصار على اتهام مُثيري الشغب ومُمارسي العنف والخارجين عن القانون بالفوضوية، وعدم الالتزام، يتعين أيضا أن ندقق النظر فيما إذا كانت تربيتنا الأسرية ومبادئنا الأخلاقية وقواعدنا التنظيمية قاصرة وظالمة تدفع البعض إلى التمرد عليها. وما لم نتعامل مع العنف على أنه أشبه ما يكون بصداع أو ألم خفيف يستوجب الذهاب إلى طيب لاكتشاف أسبابه الكامنة ومُعالجتها قبل فوات الأوان فإن العنف في المجتمع سيتفحل أكثر بالتأكيد.

الهوامش

[1] محمد نجيب بو طالب . مدخل سوسيولوجي للعنف المنظم الموقف دار سراس للنشر جويلية [1992] .صفحة [63] [2] المجتمع والعنف مجموعة من المؤلفين . ترجمة الأب إلياس زحلاوي مراجعة أنطون مقدسي . المؤسسة الجامعية للدراسات و التوزيع . الطبعة الثانية . الفصل الثالث من القسم الثاني صفحة [58] [3] نفس المصدر صفحة [77] [4] أذا كان العنف ليس متأصلا في النفس البشرية أي أنه ليس غريزة فإنه إذا فعل له مقاصده و أهدافه .
[5] غالبا ما يكون موقفنا من العنف مؤسسا على تفهمنا أو رفضنا لمقاصده النهائية لذلك فإن الصراع النظري حول أي المقاصد أكثر وجاهة لا تفسر العنف بل على الأرجح تبرره .
[6] العنف في المجتمع .مصدر سابق صفحة [152] [7] لمزيد التوسع في فهم هذه الظاهرة يمكن الرجوع إلى كتاب الانتحار لديركايم E. Durkheim Le suicide. Paris . ALCAm 1897
[8] لقد تجسد هذا القبول في الكثير من كتابات الرأي التي تتحدث عن أزمة أخلاق و قيم
[9] راجع في هذا مؤلفات فرويد قلق في الحضارة و محاولات في التحليل النفسي
[10] المجتمع و العنف مصر سابق صفحة [66] [11] لقد طُرح هذه السؤال بإلحاح بعد ظهور الصراع حول النموذج المجتمعي .
[12] يمكن الإشارة هنا إلى ما تعرض له الطاهر الحداد و أبو القاسم الشابي من مضايقات بعد نشر آرائهم .
[13] لقد كان إبطال العمل بنظام التعليم الزيتوني و إلغاء الأحباس و إصدار مجلة الأحوال الشخصية منى أهم ما قام به بورقيبة باسم تحديث الدولة و تعصيرها .
[14] لمزيد التوسع في دلالات الجماعة راجع د . شفيق رضوان .علم النفس الاجتماعي المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع الطبعة الثانية [2008] .
[15] للتمييز بين الجمهور و الحشد و المشجعين و المشاهدين راجع أمين أنور الخولي الرياضة و المجتمع سلسلة عالم المعرفة عدد[216] الكويت [1996]الفصل الخامس صفحة [215].
[16] للتوسع في موضوع شبكات التواصل داخل المجموعة راجع شفيق رضوان و كذلك فؤادة عبد المنعم البكري . الاتصال الشخصي في عصر تكنولوجيا الاتصال .عالم الكتاب القاهرة الطبعة الأولى [2006] .
[17]نظرية الثقافة مجموعة من المؤلفين ترجمة علي السيد الصاوي مراجعة و تقديم أ. د.الفاروق زكي .سلسلة عالم المعرفة عدد[223] يوليو الكويت [1997]الصفحة [ 162..176] [18] نفس المصدر صفحة [39] [19] نفسه صفحة [329] [20] لمزيد التوسع راجع Pierre Ansart .Les sociologies contemporaines Paris Le Seuil 1990.
[21]نفس المصدر صفحة 39.

—————————————————

*باحث في علم الاجتماع تونس/ عن مركز الدّراسات الاستراتيجيّة والديبلوماسيّة .

اقرأ أيضا

الأزمة الروسية-التركية: محددات التاريخ والجغرافيا والتطلعات لأدوار جديدة

العلاقات التركية-الروسية: ثِقَل التاريخ ومحددات الجغرافيا العارفون بتاريخ العلاقات التركية-الروسية سيقرأون حادثة إسقاط الطائرة الروسية …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *