بقلم: هيثم شلبي
في أعقاب الاعتراف الفرنسي بمغربية الصحراء، واعتمادها مخطط الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية “حلا وحيدا” لهذا النزاع المفتعل، أزبد النظام الجزائري وأرغى، وتوعد فرنسا “بالويل والثبور وعظائم الأمور”، وتجاوز كل الأعراف الدبلوماسية في انتقاد قرار سيادي لا يحق له مجرد التعليق عليه، وإلا فتح الباب لتدخل باقي الدول في سياساته الداخلية! ولتزامن الخطوة الفرنسية مع الحملة الانتخابية الرئاسية في الجزائر، بدا مفهوما أن يتبارى مختلف أركان النظام السياسي الجزائري من حكومة وبرلمان ووسائل إعلام في رفع الصوت عاليا ضد الخطوة الفرنسية، قياسا على سوابقهم المماثلة في التهجم على المستعمر السابق، كلما كانوا بحاجة إلى إلهاء الرأي العام المحلي عن مشكلة كبيرة، أو كسب صفة “الوطنية” على ظهر السيد الفرنسي! كما أن النظام الجزائري لم يكن يملك سوى تكرار التعبير المنفلت عن الغضب تجاه فرنسا، قياسا على سابقته مع إسبانيا، على إثر اتخاذها موقفا مماثلا من الصحراء المغربية. ومع نزوله عن شجرة العداء لإسبانيا، وإرجاعه سفيره “صاغرا” إلى مدريد، دون أن يحدث أدنى تغيير في الموقف الإسباني، يبرز التساؤل هنا: متى ينزل النظام الجزائري عن شجرة غضبه المفتعل على السلطات الفرنسية، ويعيد سفيره إلى باريس، “ويلحس” تصريحاته العنترية ضد السيد الفرنسي، ويستأنف علاقته الطبيعية مع مستعمره السابق/ الحالي؟!!
بداية، من المفيد الإشارة إلى الأسباب التي تجعلنا -ككثير من المراقبين للشأن الجزائري- نجزم بأن إعادة السفير الجزائري لباريس، وتجاوز الأزمة “المفتعلة” مع فرنسا، ستأتي أسرع بكثير مما فعلته مع إسبانيا. أول هذه الأسباب هو انتهاء الحاجة للخطاب المتشنج ضد السلطات الفرنسية، وذلك مع انتهاء الانتخابات بالتمديد للرئيس عبد المجيد تبون لعهدة ثانية، بمباركة شخصية من الرئيس ماكرون في إيطاليا خلال قمة الدول السبع الصناعية! ثاني وأهم الأسباب، هو عدم اقتناع معظم المراقبين بأن النظام الجزائري، بمختلف أجنحته، يمكنه الذهاب بعيدا في حالة العداء “الكاذب” تجاه فرنسا، لافتقاره إلى أي هامش استقلالية تجاه “السيد الفرنسي”، الذي يتحكم في مختلف مرافق السلطة الجزائرية. ثالث الأسباب -في اعتقادنا- يعود إلى قناعة النظام الجزائري بأن مشكلة الصحراء المغربية في طريقها إلى الحل قريبا، وأنها لم تعد تصلح لتكون أساسا محددا للعلاقات الخارجية الجزائرية، على الرغم من التظاهر بعكس ذلك. وعليه، فهي مجبرة على التعامل مع دول العالم الكبرى التي تعترف تباعا بمغربية الصحراء، مثلما تعاملت مع الولايات المتحدة التي دشنت هذا المسار الدولي، أي “بالصمت المطبق”!
على صلة بالموضوع، يمكن أن نعزو “السهولة” النسبية التي تم فيها عزل رجل المخابرات القوي الجنرال جبار مهنا، من طرف جناح الرئيس تبون، إلى رفع فرنسا يدها عن الرجل، ومنحها “المباركة” للرئيس تبون للقيام بهذه الخطوة. وبعيدا عن التناقض الصارخ بين هذه المباركة، وأجواء العداء المعلن للسلطات الفرنسية، فإن عزل مهنا لا بد وأن تحصل فرنسا على مقابله من الرئيس تبون، لأنها أزالت من طريقه مشكلة كبيرة، لطالما سببت له الحرج طيلة ولايته الأولى. وعليه، ينتظر الجميع الآن موعد الاستحقاق التالي، المتمثل في إزاحة الجنرال شنقريحة، برغبة فرنسية وتنفيذ جزائري، أو برغبة تبون ومباركة ماكرون! حتى يصبح جناح الرئيس تبون هو الأقوى، حتى مع وجود رئيس ضعيف، الأمر الذي يتيح لفرنسا صياغة المواقف الجزائرية دون كثير نقاش أو اعتراض.
وفي حال تم ما أشرنا إليه في النقطة السابقة، تصبح في يد فرنسا ورقة قوية تدعم موقفها التفاوضي مع المغرب، حيث لن نستغرب ساعتها الحديث عن وساطة فرنسية، معلنة أو خفية، تغير المواقف الجزائرية العدائية للرباط، ويتم فيها مراجعة القرارات الجزائرية المتهورة التي اتخذتها، من قبيل إغلاق الحدود المستمر منذ ثلاثة عقود، وإقفال المجال الجوي، وفرض التأشيرة على المواطنين المغاربة مؤخرا. وقد تبدو للبعض مثل هذه التغييرات من قبيل الأحلام أو الأماني، لكن تأكد الجميع من انعدام البدائل أمام السلطات الجزائرية يجعلنا نضع هذه التطورات في خانة المحتملة، لعدم وجود ما هو يقيني في حالة هذا النظام الفاقد للمشروعية.
كخلاصة، لا يتوقع أن يعلن عن شيء دراماتيكي على صعيد العلاقة الجزائرية الفرنسية، قبل أن تتم زيارة الرئيس ماكرون للمغرب نهاية أكتوبر الحالي، لكن، يستبعد أن تستطيع الجزائر الاحتفاظ بسفيرها في عاصمة بلاده دون أن تعيده إلى عاصمة الأنوار، بما يتجاوز بداية العام الجديد على الأرجح، وستجد سلطات الجزائر الوسائل المناسبة لتبرير هذا التراجع السريع، والذي يمكن أن يأتي في سياق حكومة جديدة، تدشن العهدة الثانية للرئيس تبون، مع وزير خارجية آخر غير الحالي أحمد عطاف، حتى ينسب التغيير الجديد في المواقف للدبلوماسية الجزائرية الجديدة. عموما، ما هي إلا أسابيع قليلة تفصلنا عن نزول السلطات الجزائرية عن شجرة العداء المفتعل لفرنسا، حيث لا يمكن تصور قدرة احتمال المسؤولين الجزائريين للبعد طويلا عن العاصمة باريس، وأملاكهم وأرصدتهم الموجودة فيها، والتي جمعت خلال عقود الاستقلال المصطنع عن فرنسا!!