بقلم: هيثم شلبي
في تكرار لخرجتها “العنترية” الاستباقية على الاعتراف الفرنسي بمغربية الصحراء قبل أيام، أصدرت وزارة الخارجية الجزائرية بلاغا جديدا متشنجا هاجمت فيه الموقف الفرنسي، بعد إعلانه رسميا من قبل الرئيس إيمانويل ماكرون، في رسالة تهنئته للملك محمد السادس في الذكرى الخامسة والعشرين لجلوسه على عرش المملكة المغربية. وكما كان متوقعا، حاولت خارجية النظام العسكري الجزائري -يائسة- تبرير موقفها عبر تكرار نفس المغالطات حول مبدئية وقوفها مع “حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره” وكون الخطوة الفرنسية تعاكس “جهود الأمم المتحدة الهادفة إلى إنهاء الاستعمار المغربي للصحراء”، دون أن يكون النجاح حليفها!! وانسجاما مع سابقتها مع اسبانيا، أعلنت الجزائر سحب سفيرها من فرنسا، وهي خطوة سبق وقامت بها عدة مرات، قبل أن تتراجع عنها لاحقا خلال أسابيع، بعد أن تؤدي الخطوة الهدف المرجو من تسويقها داخليا للشعب الجزائري، غير المعني أصلا بكل ما يصدر عن هذا النظام الفاقد للشرعية منذ سنوات طويلة!
ويأتي هذا الخلاف المفتعل بين حكام الجزائر وسادتهم في الإليزيه، مع بداية الحملة الانتخابية لرئاسيات 2024، التي ينافس فيها الرئيس عبد المجيد تبون نفسه، ويعول عليه نظام الجنرالات في خلق أجواء من الإثارة “الوطنية” والشعور الجمعي ضد “المستعمر السابق”، علها تنجح في رفع نسبة المشاركة في الانتخابات عن 30%، حتى لا تكون مضطرة لصنع تزوير كبير في هذه النسبة! لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام: ما موقع قضية كالاعتراف الفرنسي بمغربية الصحراء في سلم أولويات المواطن الجزائري العادي، وما مدى احتمال تعامله مع وحدة المغرب الترابية كقضية وطنية تحظى بالأولوية عنده؟! هل يمكن لقضية الصحراء أن تتقدم على معاناة شباب الجزائر من البطالة، التي تدفع العشرات منهم إلى المغامرة في قوارب الموت يوميا للهجرة إلى الفردوس الأوروبي؟! هل يمكن أن تتفوق على شكوى سكان مناطق عديدة من عدم الحصول على احتياجاتهم من الماء أو الكهرباء؟! أم تغطي على اهتمامهم بتوفير المواد الأساسية، التي تعفيهم من الوقوف في طوابير طويلة للحصول على ما يحتاجونه منها؟! أم هل تنجح في التغطية على دخان الحرائق التي تندلع في عشرات المناطق، دون أن تكلف حكومتهم نفسها عناء اقتناء التجهيزات اللازمة للتعامل المحترف مع هذه الحرائق، وتمنع تسجيل الخسائر المادية والبشرية الباهظة سنويا؟!
في ارتباط مع ما سبق، ولأن الإجابة البديهية على الأسئلة الماضية هي قطعا بالنفي، ليس فقط في الجزائر، بل في أي بلد قد يجد فيه شعب نفسه مضطرا للاختيار بين احتياجاته في العيش الكريم، ومواقف نظامه العنترية في قضية ما، بغض النظر عما تضفيه سلطاته على هذه القضية من “قداسة”. هذا الموقع الطبيعي المتدني -بديهيا- لقضية الصحراء في سلم أولويات المواطن الجزائري، ناهيك عن عمق إدراكه لمتاجرة جنرالاته في هذه القضية على مدى نصف قرن، دون أن يكون لذلك أي فائدة من أي نوع بالنسبة للمواطنين الجزائريين؛ بل على العكس، كانت (أي قضية الصحراء) بابا مشرعا لهدر المليارات في دعم عصابة البوليساريو، ونهب خيرات الجزائر من قبل جنرالاته، عبر عمولات صفقات التسلح عديمة الجدوى طيلة هذه العقود. وهنا، يبدو لافتا تسجيل ملاحظتين غاية في الأهمية، تظهران دون أدنى ملمح للشك، مدى ضعف وهشاشة النظام العسكري في الجزائر، وتوحي بأنه يعيش أيامه الأخيرة، وهو ما ظهر جليا بالأساس في رد الفعل الهستيري على الاعتراف الفرنسي.
الملاحظة الأولى تتعلق بخلو جعبة النظام من أي قضية تصلح لإثارة اهتمام الرأي العام الجزائري، وتمنح لدعاية الجنرالات حول “الجزائر الجديدة” أي مصداقية. فلا انتصارات “القوة الضاربة” إقليميا وقاريا ودوليا صالحة لأداء المهمة، ولا فتوحاتها الاقتصادية بأفضل حالا! كما أن ولاية تبون لم تنجح سوى في مراكمة الوعود بغد أفضل، دون أن ينقص عدد الواقفين في طوابير المواد الأساسية مواطنا واحدا. أما ملف الذاكرة واستعادة الجماجم ومتاع الأمير عبد القادر، فلم تكن أفضل حالا! وعليه لم يتبق للنظام سوى اختلاق حجة للتهجم على المستعمر السابق، لإثارة شعور وطني “افتراضي”، رغم أن اختيار المناسبة قد خانهم، حيث أن مغربية الصحراء -من عدمها- ليست المقام الذي يمكن أن تغذي مقالا معاديا لفرنسا، لاسيما وأن ردة فعل مماثلة لم تصدر عن النظام تجاه الولايات المتحدة، وعشرات الدول الأوروبية والعربية والإسلامية والأفريقية التي تعترف صراحة بمغربية الصحراء!
الملاحظة الثانية، والأهم في رأينا، تتعلق بما يمكن تسميته “التصحّر الكامل” للحياة السياسية الجزائرية!! فبمجرد صدور بلاغ وزارة الخارجية المسعور ضد الخطوة الفرنسية، طافت وسائل الإعلام الدعائي للنظام على رؤساء جميع الأحزاب الجزائرية “الشرعية”، حتى المجهرية منها، من أجل طلب تعليقهم على الحدث، حيث قاموا جميعا دون استثناء، بتكرار نفس عبارات بلاغ وزارة خارجية نظامهم العسكري، كل بلغته الخاصة، دون أدنى اجتهاد لإضافة عبارة واحدة، وهو ما يضعنا أمام احتمالين لا ثالث لهما: إما أن هذه الأحزاب، التي يفترض أنها تمثل الجزائريين من مختلف المناطق والفئات، تعبر عن حالة إجماع شعبي مطلق على معاداة الوحدة الترابية لجارهم المغربي، وحالة اصطفاف تام خلف “حق الصحراويين في دولة مستقلة”، وهو الأمر المستحيل نظريا وعمليا، بل ويكذبه الواقع بشكل صريح؛ أو أن هذه الأحزاب لا تملك الحد الأدنى من الشرعية الجماهيرية، وما هي إلا أدوات صنعها جنرالات النظام من أجل تأثيث الديكور السياسي له، وهو ما تؤكده عشرات المواقف والاختبارات السابقة؛ وبالتالي، فهي جزء من النظام الذي طالب الحراك الشعبي المليوني قبل خمس سنوات بإسقاطه. لقد كان حريا بالنظام، لو أن جنرالاته يمتلكون الحد الأدنى من الحصافة، أن يترك هامشا لبعض الاختلاف في المواقف المعبر عنها، أو يترك لها هامشا في الاجتهاد، عن يمين أو يسار السلطة، في التعبير عن تنوع المواقف من مغربية الصحراء ووحدة أراضي جار الدم والكفاح المغربي. لكنه اختار أن يؤكد بشكل صارخ أنه لا وجود لحياة سياسية في الجزائر، وأن عشرات “الدكاكين” المسماة أحزابا لا تمتلك شرعية شعبية تزيد عن شرعية الجنرالات أولياء نعمتهم!!
عموما، هي أسابيع قبل أن يستقر الوضع للرئيس الجديد القديم عبد المجيد تبون في قصر المرادية، قبل أن يتلقى الأوامر من قادة الجيش والمخابرات بالنزول عن شجرة التهجم على فرنسا، وإعادة السفير الجزائري إلى باريس، انسجاما مع حقيقة عدم إمكانية تخيل القطيعة بين هؤلاء الجنرالات وبين “ماما فرنسا”. وحتى يحين موعد جديد للمتاجرة بقضية “حق الشعب الصحراوي في تقرير المصير”، سيبقى العداء للمغرب هو سياسة النظام الجزائري منتهي الصلاحية وفاقد الشرعية، وسيستمر معها مسلسل هزائمه المتسارعة، المرتبطة بالانهيار الوشيك لكل هذا النزاع المفتعل والوهمي، والإقفال النهائي لقضيته أمميا، بعد أن أقفلها المغرب على أرض الواقع!