بقلم: هيثم شلبي
بعد الخطوة المتهورة التي أقدم عليها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بحل البرلمان وتقديم موعد الانتخابات التشريعية بثلاث سنوات كاملة، كان النظام الجزائري أول المتخوفين من هذه الخطوة. صحيح أن هذه الانتخابات سيكون لها تداعيات داخلية وخارجية متعددة، بشكل يحتم متابعة ما ستسفر عنه من نتائج على المستوى الفرنسي الداخلي، والمستوى الأوروبي الخارجي، وعلى صعيد باقي المستعمرات السابقة التي تتأثر قطعا بأي تغييرات سياسية تجري في هذا البلد، لكن لماذا تنظر الجزائر -من بين باقي المستعمرات الفرنسية- إلى هذا الحدث بتخوف جديد، يصفه البعض “بالرعب”، في مقابل تفاؤل حذر تبديه الأوساط المغربية لتداعياته المنتظرة؟
بداية، فالتغير المؤكد الوحيد الذي سيطال الحياة السياسية الفرنسية، حتى قبل ظهور نتائج الجولة الثانية الحاسمة، فهو تقهقر التيار الموالي للرئيس ماكرون، وتحديدا حزبه “النهضة”، إضافة لتقهقر مماثل يتوقع أن يطال الحزب اليميني الحليف لماكرون “الجمهوري”؛ هذا مقابل تقدم تاريخي، سيعرف مداه خلال أسبوع، لكل من غريميه أقصى اليمين وأقصى اليسار. هزيمة نكراء ستترك الرئيس ماكرون أمام خيارين لا ثالث لهما: إما تقديم استقالته، أو القبول بتقييد صلاحياته الواسعة إلى درجة الشلل والعجز عن اتخاذ أي قرار. لكن، ما الذي يجعل من هزيمة ماكرون مدعاة لرعب عسكر الجزائر، وتفاؤل جيرانهم في المغرب؟ إنه ببساطة السياسة العدائية تجاه المغرب التي طبعت معظم ولاية الرئيس ماكرون الأولى، والمستمرة حتى الآن خلال ولايته الثانية، وهو الأمر الذي كان مدعاة للابتهاج لدى الجيران في الجزائر.
إن الموقف المعلن لكل من ممثل أقصى اليمين، حزب التجمع الوطني بزعامة مارين لوبان ورئاسة جوردان بارديلا، وأقصى اليسار الذي يتزعمه حزب فرنسا الأبية برئاسة جان لوك ميلونشون من العلاقة مع المغرب، يكاد يكون نقطة الاتفاق الوحيدة بين الحزبين؛ بل إنه موقف يتفق معه حتى حزب الجمهوريين اليميني وفق ما عبر عنه رئيسه إيريك سيوتي في أكثر من مناسبة، حيث أجمعت جميع هذه الأحزاب على ضرورة تحسين العلاقة مع المغرب عبر بوابة الاعتراف بمغربية الصحراء، إما عبر الصيغة الأمريكية أو الإسبانية. بكلام آخر، فقد كان الرئيس ماكرون وحزبه “النهضة” هو الوحيد الذي يصر على موقف عدائي مع المغرب، ضدا على إجماع مختلف أطياف الحياة السياسية الفرنسية. وعليه، فأيا كانت نتائج الانتخابات التشريعية، وحتى مع الأخذ في الاعتبار أن السياسة الخارجية هي من اختصاص الرئيس ماكرون، فإنها ستجلب معها على الأغلب موقفا إيجابيا من مغربية الصحراء، وهنا مكمن الرعب الذي دبّ في أوصال النظام العسكري الجزائري.
ومن المفيد هنا التأكيد على بعض الحقائق عند قراءة الموقف الجزائري مما يجري حاليا في فرنسا، لتوضيح زيف ما تروج له أبواق النظام الجزائري ومن يدور في فلكها. فرعب هذا النظام من تقدم اليمين الذي يوصف بالمتطرف، لا يرتبط بأي من المخاوف التي تبديها الجالية الجزائرية في فرنسا والتي يتجاوز عددها الثلاثة ملايين، لسبب بسيط هو أن هذا النظام لم يكترث يوما لمصير مواطنيه داخل الجزائر أو خارجها (بما فيها فرنسا)، لاسيما وأن المهاجرين الجزائريين هم في غالبيتهم العظمى مناوئين للنظام العسكري ولا يكنون له أدنى احترام. الحقيقة الثانية، أن فرنسا كملاذ آمن للأموال التي ينهبها الجنرالات داخل الجزائر، ليست مرشحة لأي تغيير أيا كان الفائز في الانتخابات، فهي على امتداد سنوات الجمهورية الخامسة، والرؤساء الذين تعاقبوا على الإليزيه من مختلف التوجهات، لم تتخل يوما عن لعب هذا الدور، وليست مرشحة لأن تشهد أي تغيير على هذا الصعيد. أما الحديث “الفارغ” حول توقع “ردة” من اليمين “المتطرف” تجاه ملف الذاكرة، الذي يروج له الرئيس تبون وأركان نظامه، فهي حجة متهافتة لا تقل سخفا عن سابقاتها، إذ يعلم القاصي والداني أن هذا الملف ما هو إلا “قميص عثمان” يرفع كشعار لوطنية زائفة يروجها نظام فاقد للشرعية من أجل كسب شعبية مفبركة وسط مواطنيه.
أمام هذه الحقائق، ينبغي إدراك أن الدولة العميقة في فرنسا، بسلوكها الاستعماري، ليست مرشحة لتغييرات دراماتيكية مع قدوم اليمين “المتطرف” أو حتى نظيره اليساري، وأن ما يستحق المتابعة هي طريقة إدارتها لخروجها “الحتمي” من مستعمراتها السابقة، لاسيما على صعيد القارة الافريقية. وفيما يخص المغرب، ورغم الإيجابية التي تحملها تصريحات هذه القوى، فمن غير المتوقع أن تقدم للمغرب اعترافا صريحا بمغربية صحرائه، وبالتالي التخلي عن “الحياد” المزعوم في علاقتها بين الجارين المغرب والجزائر دون “ثمن مناسب”. وعليه، ينصب اهتمام النظام الجزائري على البدائل المتاحة امامه من أجل التخفيف من حدة التغير المرتقب في المواقف، بتجهيز حزمة من التنازلات والمغريات التي يمكن أن تجعل القادمين الجدد إلى سدة الحكم في فرنسا أقل اندفاعا في سعيهم لإجراء تحسن جذري في علاقتهم بالمغرب، وهي سياسة تحيط بنتائجها الكثير من علامات الاستفهام، لاسيما وانها مقدمة من طرف نظام “منتهي الصلاحية” منذ زمن بعيد!
وهكذا، يجد النظام العسكري في الجزائر نفسه أمام خطر مزدوج: خسارة مرتقبة للسند الفرنسي، في الوقت الذي لا يستطيعون فيه كسب السند الروسي، بسبب اندفاعهم في تنفيذ أوامر ماكرون وجناحه على صعيد دول الساحل المهمة للروس. وما يزيد من فداحة خسارتهم، أن السند الأمريكي غائب تاريخيا، ويصعب كسب ثقته، لاسيما مع العودة المتوقعة للرئيس ترامب خلال الانتخابات الرئاسية بعد بضعة أشهر. نفس الأمر ينطبق على الصين، التي ورغم علاقاتها الاقتصادية مع الجزائر، لا يمكنها ان تقبل بلعب دور “الراعي الرسمي” للنظام الجزائري؛ الأمر الذي يعني انكشافا تاما لهذا النظام على المستوى الدولي. أما التعويل على استخدام سلاح الغاز والنفط في رفع أسهم الجزائر دوليا، فهو أمر مقطوع بمحدوديته لأن ساحة تأثيره تقتصر على الساحة الأوروبية المنقسمة، والتي تساند في معظمها الطرح المغربي، وثانيها أن الجزائر قد سلمت هذا السلاح بالكامل لإيطاليا، بطريقة تجعل من المستحيل استخدامه على مستوى باقي دول القارة (كما هو الشأن بالنسبة للغاز الروسي).
ولا ننسى هنا، أن الانقلاب المنتظر في الساحة الفرنسية، الراعي الرسمي للنظام الجزائر قد بدأت تباشيره تلوح منذ الآن، بعد الخسارة المدوية لماكرون وحزبه في البرلمان الأوروبي، وبالتالي صعوبة توقع أن يعود لمعاكسة المصالح المغربية على صعيد القارة، وبالتالي، خسارة الجزائر لوسيلة ضغط كانت “تزعج” المغرب، حتى وإن لم تسبب لها خسارات معتبرة.
ختاما، فإن نظاما لا يستند إلى شرعية شعبية كالنظام العسكري في الجزائر، يصعب تصور تحقيقه لأي انتصار دبلوماسي أو سياسي خارجي، وان أقصى ما يملكه على هذا الصعيد، هو تقديم نفسه كنظام وظيفي قابل للابتزاز وتقديم الخدمات للقوى الدولية المؤثرة، أملا في كسب مزيد من الوقت، وإطالة عمر النظام بالقمع والترويج لانتصارات وهمية، يبدو أن أفاقها قد بدأت تضيق بشكل متسارع؛ بوتيرة أعظم مما يخشاه النظام ويتوقعه معارضوه!