بقلم: هيثم شلبي
شيئا فشيئا، يتضح السبب الذي من أجله قام جنرالات الجزائر بإخراج أحمد عطاف من “مستودع” التقاعد، ليمنحوه حقيبة الخارجية مرة أخرى، بعد أن اختبرت طاعته “للأوامر العسكرية” دون نقاش خلال ولايته الأولى من 1996-1999! فمن أجل إنهاء مناكفات أحد “صقور” الخارجية الجزائرية (رمطان لعمامرة)، والتصرف بحرية في مجال السياسة الخارجية للجزائر دون تشويش، كان لزاما على العسكر إحضار شخصية مهادنة لا تسبب لهم الكثير من العراقيل وهم يتدخلون في مجالها الحيوي (الدبلوماسية والسياسة الخارجية للبلد)، وبالتالي يستطيعون التحكم في سياسة البلد الخارجية كما يفعلون في نظيرتها الداخلية، التي يوجد على رأسها شخصية شبيهة بعطاف، ونقصد الرئيس عبد المجيد تبون، والذي ينافس وزير خارجيته في طاعة أوامر العسكر -بأجنحتها المتناقضة- دون نقاش أو مشاكل!!
نسوق هذه المقدمة، وفي البال جولات الجنرال السعيد شنقريحة رئيس هيئة الأركان على مختلف الدول، في زيارات لا ترتبط دائما بلقاءات ذات طابع عسكري تناسب منصب الرجل، بل تحمل أجندات سياسية هي في صلب اختصاص الرئيس تبون ووزيره في الخارجية أحمد عطاف. ولعل أبرز مثال على ما نقول زيارتيه الأخيرتين لكل من السعودية ورواندا، ورغبته في طلب وساطة الأولى في الخلاف الجزائري- الإماراتي، ومناكفته لغريم الثانية (جمهورية الكونغو الديمقراطية) حليف المملكة المغربية، مع محاولة ثنيها (أي رواندا) عن مزيد من التقارب مع المغرب، بعد أن جمدت عمليا علاقاتها مع البوليساريو دون أن تعلن عن ذلك. نفس الأمر ينطبق على الجنرال جبار مهنا الذي يترأس جهاز المخابرات الخارجية، وينسق عمليا مع نظيره في المخابرات الداخلية، لكونهما عمليا رجلي الجنرال المتقاعد محمد مدين (توفيق) داخل هرم السلطة العسكرية الحاكمة في الجزائر. فوجود مهنا من ضمن حضور لقاء الرئيس تبون والإمام المالي محمود ديكو، هو الذي أثار حفيظة السلطات المالية، التي تدرك أن مهنا هو من نظم اللقاء، وجيء بتبون لالتقاط الصور فقط! كما أن رجالات المخابرات هم المسؤولون المباشرون عن توتير علاقة الجزائر بدولة الإمارات العربية المتحدة، ضد رغبة جناح هيئة الأركان على الأغلب، وذلك من خلال سلسلة التسريبات التي بدأت باعتقال دبلوماسيين إماراتيين بتهمة التجسس لحساب إسرائيل، مرورا بخبر طرد السفير الإماراتي من الجزائر، وانتهاء بالاتهامات التي توزع على وسائل الإعلام لنشرها، حول تدخلات مزعومة للإمارات ضد المصالح الجزائرية في دول الجوار، وكأن الإمارات هي من أمرت السلطات الجزائرية باستقبال شخصية جدلية كمحمود ديكو، أو طرد مواطني النيجر بتلك الطريقة المهينة!!
انخراط المؤسسة العسكرية بجناحيها (الجيش ممثلا بهيئة الأركان، والمخابرات بشقيها الخارجي والداخلي) في الاضطلاع بممارسة الأدوار الدبلوماسية المنوطة بوزارة الخارجية، بدل الاكتفاء بتوجيهها بالأوامر المباشرة، من شأنه أن يضعف حضور هذه الدبلوماسية، الضعيفة أصلا، ويحول دورها إلى مجرد محاولة “إطفاء” الحرائق التي يسببها الجنرالات في المحيط الإقليمي والقاري للجزائر. ولن يفيد ساعتها “تغنّي” الرئيس تبون بحصول بلاده على مقعد مؤقت في مجلس الأمن، للتدليل على الأهمية الدبلوماسية لها، لاسيما على صعيد القارة الأفريقية. ولا أدل على عزلة الجزائر، وإحساسها بالحصار من محيطها “المعادي” لنظامها العسكري وحرائقه التي لا تنتهي، من استنجاد تبون بفكرة بائسة لإنشاء “مناطق تجارة حرة” مع خمس من دول الجوار، هو يعلم يقينا أنه لن يستطيع في أفضل الحالات سوى إنشاء اثنتين منها في كل من موريتانيا وتونس (لن ترى النور في مالي والنيجر وليبيا)، وأنها ستفشل حتما في هذين البلدين، لعدم امتلاك الجزائر أصلا لما يمكن أن تتاجر به مع هذه البلدان. خطوة لا تقل بؤسا عن مبادرة “إنشاء كيان مغاربي بديل” عن اتحاد المغرب العربي، بشراكة مع رئيس تونس الفاقد للشرعية، ورئيس ليبيا الفاقد للصلاحيات!!
الخطير في ممارسة جنرالات الجزائر لأدوار وزارة خارجيتهم، أنها لا تتورع عن “الألعاب الخطرة”، والمراهنات الخاسرة. فخطوة إدخال قوات “فاغنر” إلى مالي، والتي أشرف عليها الجنرال شنقريحة شخصيا، عادت عليهم بالندامة حاليا، وهم يرون وجود هذه القوات يتحول إلى ورطة لهم شخصيا، بدل أن يتسبب في ورطة لمالي كما أرادت ذلك فرنسا. نفس الأمر ينطبق على الأزمة مع النيجر؛ فطرد المهاجرين النيجريين الذي أريد له أن يتحول إلى أزمة للنظام العسكري في النيجر، من أجل ممارسة الضغط عليه للانصياع لأوامر فرنسا، أصبح عنصر توتير بالغ -إن لم نقل تفجير- للعلاقات الجزائرية النيجرية! وهو ما ينطبق على تدخل شنقريحة في أزمة شرق الكونغو، من خلال إبداء الاستعداد لتقديم الدعم العسكري للمتمردين الروانديين في المنطقة، وبالتالي صب المزيد من الزيت على هذه المنطقة الملتهبة في وسط القارة، الأمر الذي لا يؤذي فقط علاقات الجزائر بالكونغو الديمقراطية، بل يظهرها بمظهر الداعم للفوضى والإرهاب في القارة الأفريقية برمتها، ويجردها من جميع مسوغات لغوها ولغطها حول “دعم حركات التحرر” في القارة!!
أما آخر ما تفتقت عنه عبقرية العسكر، فهو تقديم فائض طائراتها المقاتلة من طراز Mig-29 إلى القوات المسلحة السودانية كدعم لها في مواجهة ميليشيا “قوات الدعم السريع”! ويحاجج الجنرالات بأن دعمهم لقوات الجنرال عبد الفتاح البرهان يأتي مناكفة لخصمهم الإماراتي المتهم بدعم قوات غريمه حميدتي!! لكن ما لا يقولونه هنا، أن هذا الدعم يأتي تنسيقا مع الحليف الإيراني الذي تكفل بدعم البرهان بطائرات مسيرة، بينما ترك للجزائر مهمة دعم البرهان “بخردة” الاتحاد السوفييتي من الطائرات المقاتلة، والظهور بمظهر من “يدعم الشرعية”! فما القصة؟
معلوم أن مجموع أسطول الطائرات المقاتلة الجزائرية يتكون من 63 طائرة Su-30 متعددة الأدوار، و39 طائرة مقاتلة من طراز Mig-29، و42 طائرة هجومية من طراز Su-24 (مع وجود طلبيات إضافية لاقتناء 10 طائرات من الأولى، و5 طائرات من الثانية)، وهي كلها روسية.(بعضها سوفييتي) الصنع. الأقدم من ضمن هذه الطائرات، هي تلك التي تقرر منحها للجنرال البرهان، فيما يعتبره جنرالات الجزائر ردا على “مؤامرات الإمارات” التي تستهدف الجزائر في دول جوارها المباشر. وغالبا، فإن الطائرات المعنية هي تلك الخاصة بطراز الطائرة Mig-29S، والذي يمتلك الجيش الجزائري 25 طائرة منه، حيث أن الطائرات ال14 المتبقية هي من الطراز الأحداث Mig-29M/M2، وقد طلبت 5 طائرات أخرى من هذا الطراز. ولا تحتاج القوات السودانية إلى تدريب على هذا النوع من الطائرات، حيث إنها زبون لهذا الطراز تحديدا من خلال امتلاكها سابقا ل12 طائرة منه، استلمتها قبل عام 2004، ودمر معظمها خلال الحروب الأهلية المتواترة، التي دمرت البلد على مدى العقود الثلاثة الماضية.
صب عسكر الجزائر الزيت على هذه البؤرة المتوترة أصلا، والاصطفاف لصالح طرف ضد طرف آخر، من شأنه أن يؤكد تواجدها، رفقة إيران، في خانة داعمي القلاقل والاضطرابات ودعم الحركات الانفصالية والإرهابية في القارة الأفريقية، وبالتالي سيعجّل في جعل الجزائر بلدا منبوذا، بدل أن يقوي حضوره باستخدام هذا النوع من الابتزاز، وبهذا سيتسبب في مزيد من التراجع لمكانة هذا البلد القارية، وينسف خرافة “القوة الضاربة” من أساسها.
ختاما، فعسكر الجزائر بهذه “الألعاب الخطرة”، في محيطه المباشر (المغرب وليبيا ومالي والنيجر وموريتانيا) أو المناطق الأبعد (السودان والكونغو الديمقراطية)، وارتهانه لخريطة مصالح إيران في أماكن أخرى من العالم، واستمراره في عرض خدماته على القوى العظمى (فرنسا وروسيا والصين والولايات المتحدة وغيرها) بحثا عن دور وظيفي، من شأنه أن يشكل تهديدا خطيرا على المصالح الوطنية الجزائرية بالدرجة الأولى، ويسهم في تحويل قواتها المسلحة إلى ما يشبه ميليشيا فاغنر، دون الإعلان عن ذلك. وعليه، لن تفيد أي دبلوماسية مهما بلغ احتراف ممارسيها، في إصلاح الأعطاب التي يصنعها العسكر في السياسة الخارجية للجزائر، ولا في إطفاء الحرائق التي يشعلونها يوما بعد آخر، ولا سبيل لتغيير هذا المستقبل القاتم سوى بتغيير حقيقي يعيد العسكر إلى ثكناتهم، ويعزلهم عن ممارسة أي دور سياسي، خارجيا وداخليا!