بقلم: هيثم شلبي
تتلاحق الأحداث وتتوالى الإشارات لتبعث رسالة واحدة: اقتراب فرنسا من مغادرة منطقة نفوذها الأبرز عالميا: أفريقيا، الأمر الذي يجعلها تتخبط في سلسلة من ردود الأفعال “الشمشونية” التي تحاول “هدم المعبد” فوق رؤوس ورثتها ومستعمراتها السابقة، وقبل هذا وذاك، الجمهورية الفرنسية الخامسة نفسها!! وذلك بعد أن يئست من إدامة وجودها في غرب القارة، وأيقنت -بناء على ذلك- بانتفاء فرص بقائها كأحد القوى العظمى على المسرح العالمي! ولعل ما يزيد من قتامة المشهد الفرنسي، اعتمادها المتزايد مؤخرا على خدمات وكلائها في الجزائر-بعد أن خرجت بشكل شبه تام من منطقة الساحل- وذلك بسبب الفشل المزمن لجنرالات فرنسا في الجزائر، في إنجاز أي مهمة بطريقة سليمة، ولعل الأزمة الأخيرة مع مالي خير دليل على ما نقول.
وبالعودة إلى بداية العد التنازلي لرحلة الانحدار، والتي تزامنت مع حقبة الرئيس ماكرون، ابن المؤسسة المالية الذي تمرس في النهب، واستسهل الحصول على خيرات مستعمراته الأفريقية دون مقابل تقريبا. فبعد انتهاء رهانات البدايات الساذجة، التي بنت تفاؤلها بحقبة فرنسية جديدة، بناء على ربطها بسن الرئيس “الشاب” فحسب، ساهمت سلسلة من الخطوات الفرنسية في مستعمراتها السابقة، شمال وغرب أفريقيا، في تأكيد أن كل ما يحمله الرئيس الشاب لا يعدو كونه مهارات لغوية فارغة من المضمون، مقابل ممارساته التي تعود إلى أسوأ حقب فرنسا الاستعمارية. ومما زاد الأمر سوءا، أن فرنسا ماكرون استمرت في تكرار ممارسات السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، كدعم الانقلابات (تشاد) وتشكيل ودعم جماعات الإرهاب الجهادي للضغط بها على مستعمراتها (مالي وبوركينافاسو والنيجر)، وتشجيع الفوضى (ليبيا والسودان) وغيرها من الممارسات المتجاوزة، متجاهلة أنها لم تعد نفس تلك ال “فرنسا” التي مارست هذه السياسات في منتصف القرن الماضي وأواخره، لا ذاتيا، ولا موضوعيا.
وليس من قبيل المبالغة، القول بأن الخطأ الأفدح، لفرنسا عموما، ورئيسها ماكرون وجناحه على وجه الخصوص، والذي ساهم إلى حد كبير في وجودها حاليا على أعتاب الخروج النهائي من أفريقيا، هو الطريقة الكارثية التي أدارت بها علاقتها مع المملكة المغربية، والعمى الاستراتيجي الذي أصاب مختلف مراكز التفكير فيها تجاه أفضل السبل للتعامل مع الواقع الجديد للملكة، لاسيما بعد رجوعها للاتحاد الأفريقي في 2017. ومما زاد الطين بلة، أنه عوض ان يفسح ماكرون المجال لحوار عميق وصريح وواقعي بين البلدين، اختار التعويل على “ألعاب صغيرة” إما مباشرة أو عبر وكلائه في الجزائر، من قبيل معارك التأشيرات، وبيغاسوس، والبرلمان الأوروبي، وسحب السفيرة، وخطابه للمواطنين المغاربة مباشرة في الزلزال، الخ؛ ناهيك عن محاولات التشويش الفاشلة التي تكفل بها عسكر الجزائر، وانتهت جميعها إلى فضيحة، دفعت سفير فرنسا السابق في الجزائر كزافييه دريانكور للقول بأن هذه السياسة ستقود الجمهوريتين الجزائرية والفرنسية “للغرق” بسبب ربطهما بحبل واحد، وهي النبوءة التي توافقها الوقائع يوميا.
أضف إلى ما سبق، أن فرنسا و”أبنائها” في مستعمراتها السابقة، في شمال وغرب القارة، لا ينفكون يرددون بسذاجة منقطعة النظير، أن موقف ماكرون من الجارين اللدودين كان إجباريا، بسبب الحاجة للغاز الجزائري!! كما لو أن موقف الرئيس الفرنسي كان خضوعا للابتزاز الجزائري، الذي يعلم القاصي والداني أن جنرالاته يأتمرون بأمر ساكن الإليزيه، بل ويعملون عنده منذ استقلالهم الصوري قبل ستة عقود! بل واعتقد أصحاب هذا الرأي، أن بضع مسرحيات سخيفة، من قبيل استدعاء السفير الجزائري في باريس، و”معركة” أميرة بوراوي، الخ، كفيلة بمنح المصداقية لهذا “الغباء”، الذي لا ينافسه سوى اعتبار الكاتب الفرنسي الطاهر بن جلون، أن الأزمة المغربية الفرنسية راجعة لأن ماكرون تحدث بطريقة تخلو من اللباقة مع العاهل المغربي، في قضية بيغاسوس!! نفس الأمر يصدق على من يؤمنون -أو يأملون- بأن عودة شهر العسل الفرنسي المغربي مرهون بجملة مفيدة يقولها ماكرون كتأييد واضح لمقترح الحكم الذاتي، على غرار ما قاله الوزير الأول الإسباني بيدرو سانشيز، متجاهلين أن الموقف المطلوب مغربيا من اسبانيا، يختلف عما هو مطلوب من ألمانيا، ويختلف بشدة عما هو مطلوب من فرنسا، ولا نبالغ إذا قلنا أنه حتى اعتراف ماكرون “بمغربية الصحراء” (وليس مجرد مقترح الحكم الذاتي) وإن أسهم في تنفيس الاحتقان في علاقة البلدين، فلن ينجح في طي الخلاف بينهما، ولن يمنح فرنسا فرصة كبيرة للبقاء في أفريقيا، وإن كان سيقلل خسائر خروجها المدوي من مستعمراتها السابقة!!
وهكذا، فطالما اختار الرئيس ماكرون وجمهوريته الخامسة الاستمرار في ألاعيبه “الصغيرة”، المبنية على التذاكي والتلاعب بالألفاظ، اللذان يعتمدهما ماكرون للتغطية على الواقع “البائس” لفرنسا على جميع الأصعدة؛ أو اختار إطلاق المزيد من بالونات الاختبار، إما مباشرة، أو عبر وكلائه في الإقليم، فلن يحصل سوى على مزيد من تأزيم العلاقة مع المغرب، ومزيد من تسريع انهيار أتباعه في الجزائر، وتسريعا لخروجه التام من القارة الأفريقية. وتعلم فرنسا أنها لم تعد تمتلك أي مقومات للاحتفاظ بنفوذها في القارة العزيزة على قلب ناهبيها. فمن جهة، لا تملك عناصر القوة التي تؤهلها للاستمرار في حكم المنطقة، مباشرة أو عبر وكلائها، بل وأصبح التعامل معها كقوة عظمى مقتصرا على جنرالات الجزائر وأمراء الحرب اللبنانيين، الذين يعتبرون استقبال أي مسؤول فرنسي “فتحا مبينا”، بينما تغلق باقي الأبواب في وجوههم في مختلف مستعمراتهم السابقة. ومن جهة أخرى، فإن هذا الضعف الذاتي يضعفهم موضوعيا، ويجعلهم أبعد ما يكونوا عن مواجهة اللاعبين الجدد في مناطق نفوذهم السابقة، سواء من بين أصدقائهم الامريكان والأوروبيين، الذين يعتبرون أنهم الأحق بوراثة فرنسا بدلا من نظرائهم في الصين وروسيا وتركيا، أو من بين القوى الأفريقية الصاعدة وعلى رأسها المغرب، الذي نجح في وضع معادلات سياسية واقتصادية وأمنية جديدة للمنطقة، تقطع بشكل تام مع تراث الاستعمار الفرنسي القائم على القتل والنهب الوحشي المروع!!
بناء على ما سبق، تبدو خيارات ماكرون -إن جاز اعتبارها خيارات- ضيقة جدا، وتكاد تنحصر في خيارين لا ثالث لهما، ويقودان في النهاية إلى إعلان نهاية الإمبراطورية الفرنسية: الاستمرار في ألاعيبه الصبيانية بالاستعانة بجنرالاته الفاشلين في الجزائر، وميليشياته الجهادية في الساحل والصحراء، وهو ما سيقود بلاده إلى هزيمة مدوية وخروج مذلّ من مناطق نفوذه السابقة؛ أو أن يقرّ بالواقع الجديد، ويقدم مساهمة حقيقية في استقرار هذه المنطقة، عبر مبادرات صادقة تعبر عن ندم فرنسا على ماضيها الاستعماري، وليس مجرد اعتذار لفظي لا قيمة له (على الطريقة الجزائرية). ولعل أهم هذه المبادرات، هي رفع اليد عن مستقبل الجزائر، والتخلي عن جنرالاته فيها، بتأمين مخرج سريع وملاذ آمن لهم في بلدهم الام فرنسا، وضمان عدم ملاحقتهم قضائيا على جرائمهم السابقة. يضاف إليها فتح فرنسا لخزينة وثائقها السرية، للكشف عن كامل أركان وتفاصيل الجريمة المتمثلة في تقسيم القارة والعبث بحدودها الطبيعية والتاريخية، وجغرافيتها البشرية، لتخليص المنطقة من عقدة “الحدود الموروثة من الاستعمار” وإرجاع الأمور إلى ما كانت عليه قبل الاجتياح الفرنسي منذ أوائل القرن التاسع عشر، إلى سنوات الاستقلال الصوري لهذه المستعمرات في ستينيات القرن الماضي. ثالث هذه المبادرات، هو تمكين مستعمرات فرنسا السابقة في وسط وغرب القارة، من التحكم بأموالهم المودعة في البنك المركزي الفرنسي، بحجة تغطية العملة الفرنسية الفاشلة التي تتداول في هذه الدول (الفرنك الأفريقي)، والخروج التام من نظام هذه الدول المالي وبنوكها المركزية، لأنها الخطوة الأساسية التي لا غنى عنها في سبيل بداية تحررهم الاقتصادي.
ختاما، فقد يعتقد البعض أن مطالبنا الثلاثة السابقة من فرنسا هي ضرب من ضروب المستحيل، لكن الرد ببساطة أنها النهاية الطبيعية لكل جريمة بشعة، بل إنها نهاية متسامحة، حيث لم نتحدث عن متابعة فرنسا قانونيا عن جرائمها بحق القارة على مدى قرنين من الزمن، ولا عن تعويضهم المالي لكل المآسي التي عاشها الأفارقة. كل ما نقوله أنه إذا أرادت فرنسا أن تخفف من وطأة خروجها المذلّ والمحتوم من القارة (وليس كرم أخلاق منها) عليها أن تصلح أخطاءها الرئيسية كقوة استعمارية، وأن تتوقف عن العناد والمكابرة تجاه الواقع الجديد في القارة، وتسعى إلى الانسجام مع المعادلات الجديدة التي أصبح بمقدور الأفارقة أنفسهم وقواهم الحية أن يضعوها لمستقبل أكثر إشراقا وقوة لبلدانهم وشعوبهم، قوامه المفاهيم التي نادى بها الملك محمد السادس حول “شراكة رابح- رابح عبر التعاون جنوب- جنوب.