حصلت تونس على المرتبة 113 دولياً، في مجال حرية الإنسان لسنة 2015، واحتلت الموقع السادس على الصعيد العربي، وذلك في تقرير دولي يحمل توقيع معهد كاتو الأميركي ومعهد فريزر ومؤسسة فريدش نيومان الألمانية. من الأهداف الرئيسية للباحثين العاملين في معهد كاتو، الدفاع عن “الحرية الفردية وعن الحكومة المحدودة إلى جانب الأسواق الحرة والسلام”، هكذا يعرّف المعهد بنفسه وأغراضه. وبالتالي، يعتبر الذين أسسوه “ليبراليين في مواقفهم السياسية، خصوصاً في مجال تقليص تدخل الحكومة في السياسات المحلية والاجتماعية والاقتصادية”.
لا يقتصر قياس الحرية في الولايات المتحدة الأميركية على الجوانب السياسية، مثل حرية المعتقد وتكوين الأحزاب والجمعيات، إلى جانب حرية التعبير والصحافة. هذه أركان مقدسة في الحياة الأميركية. لكن، إلى جانب ذلك، يضيفون إلى مقياس الحرية إطلاق يد السوق من خلال رصد، إن كانت هناك عوائق تحول دون حرية التجارة، أو تحد من الحق في الملكية. ومثل كل الليبراليين، هناك حساسية مفرطة تجاه أي شكل من تدخل الحكومات في إدارة السياسات، خصوصاً في المجال الاقتصادي أو الاجتماعي. فالدولة، من وجهة نظرهم، تمثل “تهديداً مباشراً” لحرية رأس المال.
المزيد: تونس وامتحان الأمن والحرية
يُعتبر احتلال تونس المرتبة السادسة عربيا في مجال الحريات مؤشراً إيجابيا، خصوصاً إذا قارنا الوضع الراهن بما كانت عليه الأوضاع في هذا البلد طوال مرحلة الحكم الفردي. لكن، مع ذلك، نعتقد أن ترتيب تونس في التقرير يفترض فيه أن يكون أفضل. فسقف الحريات فيها أصبح بعد الثورة عالياً جدا، خصوصاً إذا قارناه بما يجري في دول المنطقة، لكن العامل الأساسي الذي يمكن أن يفسر ما نعتبره خللاً منهجياً في مثل هذه التقارير يرتبط، مباشرةً، بإشكالية حرية السوق وعلاقتها بدور الدولة.
يستند عموم الفكر الليبرالي الرأسمالي إلى تحقيق التلازم بين الحريات السياسية والحرية الاقتصادية التي تبقى، بالنسبة لمنظريه، الشرط الجوهري لتنمية الثروة وتحقيق التراكم ودفع عجلة الاقتصاد. ولهذا، عملت هذه المدرسة، ولا تزال، على تقليص دور الدولة في المجال التنموي، والعمل على إخراجها منه.
من هنا، عندما يتم تطبيق المؤشرات الخاصة بالحرية الاقتصادية على بلدٍ، مثل تونس، من دون مراعاة خصوصياتها الاجتماعية والمؤسساتية والسياسية، ستكون النتائج مختلفة وغريبة على أرض الواقع، عندما نضعها ضمن السياق العام، بمقارنتها بأوضاع دول أخرى، تخضع لأنماط متنوعة من الاستبداد. ويقود هذا المنهج أصحابه إلى اعتبار أن بلداً يمارس فيه قدر عال من القمع السياسي يمكن أن يكون، وفق المقاييس المعتمدة، قبل هذه المراكز التي تجعل من خدمة رأس المال هدفاً استراتيجيا، أفضل وأكثر حرية من دولة أخرى، تتوفر فيها أسس قيام نظام ديمقراطي. ويتم تبرير هذه الأفضلية بإعطاء الأولوية لصالح حرية رأس المال على حساب الحريات السياسية. وعندها، يصبح لا مفر من إعادة فتح الجدل من جديد حول ما المقصود بـ”الحرية”، وما مكوناتها وآلياتها ومقاصدها.
لا خلاف حول أهمية حماية الحق في الملكية، فذلك أمر أصبح مفروغاً منه، خصوصاً بعد أن فشلت الاختيارات الشيوعية في تحقيق وعودها. لكن، في بلد مثل تونس، حيث لعب المال الفاسد دوراً خطيراً، ما أدى إلى فتح الباب أمام ثورة نجحت في إطاحة حكم الرئيس السابق، لا يمكن القبول بمن يأتي ويطالب بإلغاء دور الدولة، وطردها من المجالين، الاقتصادي والاجتماعي. ولو حصل وتم ذلك، ستكون النتائج وخيمة على الجميع، بمن فيهم رجال الأعمال أنفسهم. فهؤلاء في الحالة التونسية أو في غيرها، يحتاجون دولة قوية تحمي حقوقهم وتدافع عن دورهم، ولا يكون ذلك القوة القاهرة، وإنما بتعزيز القانون، وإيجاد التوازن بين مختلف الحريات، حتى لا تطغى حرية على أخرى، فيختل الميزان، ويعم الظلم والفوضى.
* كاتب من تونس/”العربي الجديد”