تتحدث مصادر تونسية قريبة من دائرة القرار السياسي أن مشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية، الذي جاء بمبادرة من رئيس الجمهورية السيد الباجي قائد السبسي في شهر مارس 2015، والذي أصبح مثيراً للجدل السياسي الكبير في تونس، تقرّر عرضه ومناقشته أمام الجلسة العامة بمجلس نواب الشعب خلال الأسبوع الأول من شهر سبتمبر القادم، وهو الآن قيد معالجة مختلف فصوله من طرف اللجان المعنية بمجلس النواب مع وجود رغبة قويّة في الإسراع باستكمال عمل تلك اللجان حتى يكون المشروع جاهزا للنقاش والتصويت عليه من طرف الجلسة العامة للبرلمان التونسي.
تعيش تونس اليوم في ظل ديمقراطية متعثرة، ومآزق سياسية، وبراكين اجتماعية، لا سيما أن بداية مسار الديمقراطية التونسية بعد استكمال الانتخابات الرئاسية في نهاية السنة الماضية، بدا أكثر مأساوية، بسبب تنامي خطر الإرهاب وتهديده للأمن العام ولأمن المواطن وللجمهورية وللدولة وللمجتمع بأسره، إضافة للأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة التي تعيشها البلاد. فخطر الإرهاب، وخطر الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة، كانا سيدخلان البلاد في حرب أهلية، لكن الاستثناء التونسي الذي برهن عن جدارته في الانتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة، استطاع أن يحافظ بصعوبة بالغة على مكتسبات الدولة المدنيّة التي بناها التونسيون بمؤسّساتها الوطنية ونظامها الجمهوري التقدّمي، وأن يحول دون وقوع تونس في براثن التفتيت لكيانها الوطني، كما هو جار في العديد من البلدان العربية.
المزيد: الديمقراطية التونسية في زمن «الدواعش»
غير أن الربيع الديمقراطي في تونس باهر بحرية التعبير، لكنه مضروب بسوسة العادات السياسية الطاغية التي لم يكن الديكتاتور السابق بن علي إلا رمزها الأكثر بروزاً للعيان، فالرئيس الباجي قائد السبسي لم يتمكن من إيجاد الحلول للمشكلات الاقتصادية الاجتماعية، والفروقات الاجتماعية والطبقية، والفساد الكبير الذي يمارسه رجال الأعمال، وسلطة الأوليغارشية العقارية والتجارية والمالية التي لا ينافسها إلا شبكات التهريب المافياوية. وقد لجأ مؤخرا من خلال طرحه لمشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية إلى إيجاد تسوية مصالح تخدم البرجوازية التونسية بشرائحها المختلفة، أكثر منها تسوية سياسية تخدم المصالحة الوطنية، التي لن تتحقق بصورة فعلية إلا في ضوء تحقيق العدالة الانتقالية بمضمونها التقدمي، الذي يقوم على تجسيد القطع مع الماضي الديكتاتوري والمرور إلى مرحلة السلم. فالعدالة الانتقالية تشكل حجر الأساس لبناء الديمقراطية ولا يمكن الحديث عن تحوّل فعلي نحو الديمقراطية بمعزل عن العدالة الانتقالية.
المزيد: منظمات حقوقية تونسية: مشروع قانون المصالحة الوطنية مجرد تطبيع مع الفساد
وفي ظل تأخر تحقيق العدالة الانتقالية في تونس، رغم مرور أكثر من أربع سنوات على الثورة التونسية، أحدث قانون المصالحة الاقتصادية الذي طرحه رئيس الجمهورية التونسية شرخًا كبيراً داخل المجتمع التونسي، بين المدافعين عنه، وبين المعارضين له، وكل طرف يدلو بدلوه في هذا الجدال الساخن.
وتتلخص وجهة نظر المدافعين عن قانون المصالحة الاقتصادية، في الأمور التالية:
أولاً: مادامت تونس تمر بأوضاع صعبة وتحديات غير مسبوقة، وتواجه أزمة اقتصادية واجتماعية عميقة، إضافة إلى تعطل عملية الإنتاج، واحتداد حدة التوترات الاجتماعية إلى درجة انعدمت فيها الحلول التوافقية، فإن المشاكل العديدة التي تعاني منها البلاد لا يمكن إيجاد حلول لها من دون طَي صفحة الماضي والتوجه نحو المستقبل واستعادة الوحدة الوطنية والتضامن بين التونسيين مهما كان موقعهم في الفترات السابقة وذلك دون تبادل للتهم ودون حقد أو تشهير إلا من إدانة القضاء أو ثبتت مسؤوليته في تجاوزات يحاسب عليها كفرد أمام القانون.
ثانياً: إن المصالحة الوطنية هي البوابة الأساسية لتحريك مخزون المجتمع الذي تستقر فيه قيم التسامح، والتآخي، والتآزر، والتضامن والعدل والإنصاف، والتشارك في تحمل الأعباء، وفي العمل، كما في التضحيات والمنافع. والمصالحة الوطنية بهذا المعنى تستمد مشروعيتها من مبادئ الجمهورية وقيمها، ومن الجمهورية الثانية بالتحديد التي أخذت هوية اجتماعية تضامنية. لذلك لا يمكن لها أن تكون جزئية أو فوقية، بل ينبغي أن تكون شاملة وعامة وتعالج في هذا السياق سويا وضع رجال الأعمال ووضع الشعب، وتتقدم بحلول معقولة ومقبولة للجهتين، وبما أن المصالحة تهدف إلى تحقيق التعبئة العامة فهي مطالبة بأن تتناول ملف رجال الأعمال على أساس مدى تحملهم لمسؤولياتهم الوطنية والمجتمعية وتسديدهم ديونهم للمجموعة الوطنية والضرائب المخلدة بذمتهم على أساس تسوية عامة تكون فيها مشاركتهم في المجهود الوطني بينة على الواجهتين: مواجهة الأزمة والحرب على الإرهاب والالتزام بالانخراط في التنمية الاجتماعية الشاملة وعدم العودة إلى مربع السنوات السابقة.
ثالثاً: إن المصالحة الوطنية يجب أن تسهم في تعبئة الشعب لكي يتحمل مسؤوليته في العمل وفي إنتاج الثروة. وبهذا المعنى يصبح العمل قيمة اجتماعية ووطنية إلى جانب ما يمثله من قيمة اقتصادية.
وبالمقابل، ترى الأحزاب السياسية اليسارية والقومية والديمقراطية، والعديد من منظمات المجتمع المدني، أن على رئاسة الجمهورية والحكومة سحب مشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية، بوصفه قانوناً غير دستوري، ويدخل في سياق تبييض الأموال، الذي يذكرنا بتبييض الجرائم. ولا تتمتع تونس بموروث حقيقي في مجال العدالة الانتقالية، وهذا ما يفسر انقسام التونسيين باستمرار وإلى الآن حول هذه المسألة وبحثهم عن نماذج من الخارج للاستئناس بها (جنوب إفريقيا – المغرب – دول أوروبا الشرقية.). ووفقا للتجارب السابقة في العديد من الدول، فإن مفهوم العدالة الانتقالية يقوم أصلا على ست دعائم رئيسة ومترابطة تشكل آليات وأهدافا ستة لها في الوقت ذاته، هي:
أولاً: «معرفة الحقيقة»، من أهم حقوق ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان معرفة الحقيقة حول الأسباب والظروف التي ارتكبت خلالها التجاوزات والجرائم التي ترتب عليها إلحاق الضرر بهم بكل صوره المادية والمعنوية. ويتسع هذا الحق خلال فترات العدالة الانتقالية ليشمل المجتمع كله. فأول أهداف العدالة الانتقالية هو كشف الحقيقة، ومعرفة طبيعة ما وقع من جرائم وانتهاكات لحقوق الإنسان خلال فترة الاستبداد أو القمع، مع تحديد المسؤول عنها، باعتبار ذلك حقا لكل مواطن. ومن أفضل التجارب في اتباع آليات معرفة الحقيقة لاجتياز المرحلة الانتقالية، هي تجربة جنوب إفريقيا، التي اعتمدت على إنشاء لجنة تقصي الحقائق التي حملت الاسم التالي: «هيئة معرفة الحقيقة وتحقيق المصالحة»، والتي كانت مخصصة للتحقيق في الجرائم المرتكبة في ظل النظام العنصري السابق – في غضون المدة من مارس 1960 إلى مايو 1994، بهدف تجاوز الماضي، وتحقيق المصالحة الوطنية الشاملة.
ثانياً: «المحاسبة والقصاص»، أي إجراء محاكمات جنائية للمسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان في تونس، وغيرها من جرائم أخرى ضد الشعب والوطن، سواء تمت عن طريق محاكم وطنية، أو دولية، أو مختلطة. ولا يخفي على القارئ أنه من بين أسباب اندلاع الثورة التونسية الاحتجاج على ممارسات البوليس السياسي، أي أجهزة أمن الدولة التي نعتها الناشطون الحقوقيون بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل امتدت انتهاكات النظام البائد لتصيب شباب الثورة أنفسهم، فمات منهم من مات، وجرح من جرح، ولم تتمكن منظومة العدالة الجنائية الحالية في تونس من توفير محاسبة حقيقية، أو قصاص عادل، مما زاد من احتقان الشارع التونسي.. ولكي تتم محاسبة المسؤولين عن الجرائم التي ارتكبها البوليس السياسي التونسي في حق المناضلين على اختلاف انتماءاتهم الفكرية والسياسية، يجب الاسترشاد بمفاهيم العدالة الانتقالية.
ثالثاً.. التعويض وجبر الضرر: من أهم مرتكزات مفهوم العدالة الانتقالية تعويض ضحايا القمع للمناضلين السياسيين والنقابيين ونشطاء حقوق الإنسان، وجبر ما لحق بهم من أضرار، وإعادة تأهيلهم، وتخليد ذكراهم. ومن المهم اتباع وسائل وإجراءات سليمة وناجزه لتحديد الشهداء والضحايا، وتأمين حصولهم على التعويضات المناسبة، والإرضاء الكافي لأسرهم في حالة استشهادهم.. إن عدم جبر أضرار الضحايا ومن أصيب بضرر من ذويهم أو المحيطين بهم قد يؤدي إلى المزيد من التوتر والاحتقان في المجتمع. ذلك أن الضحايا المقصودين بآليات العدالة الانتقالية ليسوا هم فقط المجني عليهم ممن قتلوا وأصيبوا خلال تلك الأحداث، بل إن الأمر يمتد لأسرهم وأهاليهم ممن فقدوا أبناءهم وذويهم.لذا فإن ما نعيشه الآن يعتبر مرحلة مفصلية وفارقة في تاريخنا الاجتماعي والسياسي، فإما التأسيس للعدل أو تواصل مسار الانتقام الذي سيولد بدوره انتقاما آخر ومظالم جديدة.
رابعاً.. محاسبة الفاسدين واسترجاع الأموال المنهوبة من الدولة: ليس من اللازم أن تقتصر إجراءات المحاسبة على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بل يجب أن تتعداها لتشمل جرائم الفساد، والجرائم الاقتصادية، كما حدث في كوريا الجنوبية عام 1987 بالنسبة لرجال الدولة الفاسدين، وهو الأمر المنطبق على مرحلة العدالة الانتقالية في تونس، بينما يتغاضى مشروع المصالحة المطروح حاليا عن محاسبة أعظم جرائم النظام السابق التي تقع في الحقل الاقتصادي، أي الفساد، لا سيما بالنسبة لرجال الأعمال الذين استفادوا من المال العام دون وجه حق في كل الأوقات، والتي تتجاوز 7 مليارات دينار. لابد من الوضوح فيما يتعلق بالفساد وبكل أشكاله، وضوحا يكون بتطبيق القانون وليس برمي التهم جزافا على البعض وبتنزيه البعض الآخر، فهل كان الفساد حكرا على العائلة الحاكمة وأتباعها في النظام السابق وأن هناك رجال أعمال مظلومين؟ المسألة لا تتحمل التأويل أو تفصيل قوانين على مقاس أشخاص أو فئات معينة، فبهذه الطريقة نفتح قضية الفساد ومحاسبة المتهمين على اعتبار أن البلاد في حاجة أكيدة إلى أموال واستثمارات، بينما ينادي المنطق بوجوب تطبيق القوانين والمساواة بين الجميع؛ فعلى رجال الأعمال أن يعيدوا ما لقيصر لقيصر، وعلى الدولة أن تحكم استغلال ما سيقع استرجاعه وألا يقع العبث به كما حصل ويحصل حاليا مع الأملاك المصادرة التي خسرناها بفعل ما طالها من إهمال وسوء تصرف.
خامساً: إن المصالحة الوطنية تبقى بلا معنى إذا لم تعتن الدولة بقطاع الشباب، الذي يحتاج إلى العمل والحياة الكريمة، والتعليم الجيد الذي يعيد إليه الاعتبار اجتماعيا ومعرفيا وعلميا، كما أن المصالحة الوطنية لا يمكنها أن تنجح دون إشراك المرأة في العمل على تجاوز الأزمة الاقتصادية، وفي الحرب على الإرهاب، وإذا لم تتناول وضعها ومكاسبها بحق بعيدا عما نسميه بالتوظيف السياسي. إذ لا يختلف اثنان في الدور الذي لعبته المرأة في مختلف مراحل النضال من أجل الديمقراطية والدفاع عن الدستور أمام المشروع الاستبدادي، وفي الانتخابات التشريعية والرئاسية، في الوقت الذي أصبحت ترى فيه مكاسبها، التي هي مكاسب المجتمع التونسي، مهددة من قبل الحركات الإسلامية.
سادساً: إن المصالحة الوطنية هي الشرط الأساسي لتنمية المحافظات الداخلية المهمشة والمحرومة تاريخيا من مشاريع الاستثمار والتنمية، وكذلك المناطق الحدودية التي تمثل حبل النجاة لتونس، فالخطر الأكبر اليوم الذي تواجهه تونس هو الإرهاب الذي ينتعش في مناخات الفقر والاحتقان بين التونسيين. إن الفقر هو أكبر ضامن للإرهابيين خاصّة في المحافظات الداخلية: باجة والكاف وجندوبة والقصرين وسيدي بوزيد وقفصة وتوزر وقبلي وتطاوين ومدنين، حيث يشعر سكان هذه المحافظات بالغبن، وبأن الدولة تخلّت عن مسؤولياتها المعنوية والمادية تجاههم، ولابد أن تستعيد دورها وهذا لن يتم إلا بطي صفحة الماضي وإنجاز المصالحة الوطنية لأن البلاد لا تتحمل مزيدا من الاحتقان ومزيدا من التجاذبات.
*كاتب صحفي/”بوابة الشروق”