على امتداد خريطة المنطقة؛ تتناسل الصراعات الداخلية والنزاعات البينية التي تتخذ في عدد من الأقطار طابعاً طائفياً لم يخل من عنف، فيما شهدت أيضاً تزايداً وانتشاراً لعدد من الجماعات المتطرفة التي توظف الدين بصورة منحرفة لتكريس الحقد والتكفير والإرهاب ورفض «الآخر»..
المزيد: أوباما للمسلمين: “لا تدعوا داعش تختطف دينكم”
كشفت تحولات الحراك عن حجم الاختلالات التي يعرفها تدبير التنوع المجتمعي في عدد من دول المنطقة؛ بعدما تفجرت الصراعات الطائفية والدينية التي عكستها العشوائية في إطلاق الفتاوى والاعتداءات على المصلين داخل المساجد واعتماد العنف في مواجهة الخصوم السياسيين والسعي لمصادرة الحقوق والحريات، فيما تنامى الصراع والخلاف بين العديد من الدول العربية والإسلامية إزاء مجموعة من القضايا والأزمات المطروحة؛ بما كرّس الفرقة وتفضيل المصالح الخاصة على المصالح الاستراتيجية المشتركة، وسمح للعديد من القوى الإقليمية والدولية بالتدخل لرسم خريطة المنطقة بسبل وذرائع مختلفة؛ وهي الأوضاع التي أدخلت المنطقة في متاهات فتن ونزاعات وحروب؛ كانت كلفتها خطيرة على الدولة والمجتمع؛ بل ورهنت الأجيال القادمة لمزيد من التوتر والصراع..
المزيد: الجزائر..نصف المساجد غير مؤطرة من طرف أئمة الوزارة الوصية
يعتبر الصّراع واختلاف الآراء والثقافات أمراً طبيعياً في العلاقات بين الدول والمجتمعات؛ بل وحتى داخل المجتمع الواحد نفسه. وتقوم الديمقراطية في أحد جوانبها على تدبير الخلافات بصورة بنّاءة وسلمية؛ بما يسمح بالتعايش والتسامح والقبول بالرأي والرأي الآخر.
ويعدّ الحوار المدخل المناسب للتقريب بين وجهات النظر وتلطيف الأجواء؛ وتتحكم في الحوار البنّاء الذي يرتكز أساساً على الاتصال؛ مجموعة من الشروط والمقومات؛ ويجد الحوار أساسه في التشريعات الدينية والقوانين المحلية والدولية؛ التي تدعم التواصل بين الناس؛ وتحفّز على السعي لحلّ مختلف المشاكل والقضايا الشائكة عبر التواصل والنقاش البناء؛ بعيداً عن كل مظاهر التعصب والحقد والعنف والإقصاء..
إنه أسلوب حضاري يسمح بتدبير الأزمات والمشاكل والخلافات بسبل راقية؛ بعيدة عن التشنج والصدام والتّعالي؛ ذلك أن اللجوء إلى العنف والصدام في تدبير الخلافات هو في واقع الأمر إلغاء للعقل..
وينطوي الحوار على أهمية كبرى بالنظر إلى كونه وسيلة لتوجيه السلوك الإنساني نحو المشترك والانطلاق منه في أفق تجاوز العقبات؛ وبناء المستقبل، وهو يعتمد في آلياته على التفاوض والنقاش والإقناع واحترام الآخر؛ بدل العنف والترهيب ورفض الرأي الآخر..
انتعشت في المنطقة؛ خلال السنوات الأخيرة الخطابات السياسية والدراسات الأكاديمية التي تتناول موضوع الحوار بين الحضارات؛ سواء تعلق الأمر منها بالحوار بين الشرق والغرب أو الحوار شمال – جنوب أو الحوار الأورو- متوسطي؛ وفي مقابل إبداء الرغبة في الحوار مع «الآخر»؛ بدا هنالك نوع من الإهمال والتقصير فيما يتعلق بالحوار الداخلي أي في علاقته بالأطراف القريبة أو مع الذات.
مما لا شك فيه أن الظروف الراهنة التي يجتازها المجتمع الدولي على مستوى تزايد المخاطر البيئية والأمنية والصحية والاجتماعية.. والتي تواجه الإنسانية جمعاء؛ تفرض إقامة حوار حضاري واسع مبني على نقاش علمي ومعرفي واجتماعي واقتصادي، تنخرط فيه مكونات المجتمع الإنساني من ثقافات وحضارات مختلفة؛ في إطار الاعتراف المتبادل والإيمان بالاختلاف..
وإذا كان الحوار البنّاء يتطلب الوعي بالمصير المشترك وبضرورة التعايش بين مختلف الحضارات؛ والتخلي عن ثقافة التعصب والاحتقار والهيمنة والتجاهل والشعور بالتفوق وتشويه الحقائق؛ والتوقّف عن استحضار الجوانب السّيئة والصور النمطية بشكل انتقائي لمختلف الحضارات وتكريسها من خلال البرامج التعليمية أو عبر الوسائط الإعلامية؛ وبذل الجهد من أجل الفهم المتبادل، فإنه يفرض على المسلمين أنفسهم – من جهة أخرى-؛ ترسيخ حوار داخلي يسهم في تذييل الخلافات والصراعات؛ بما يدعم التواصل مع الطرف الآخر من موقع ندّي وبخطاب يطبعه الانفتاح والانسجام.
تواجه دول المنطقة تحديات وإكراهات داخلية عديدة يعكسها التوتر الداخلي الذي تعيش على إيقاعه العديد من الدول والذي أجّجت من حدته تحريضات بعض النخب والقنوات الإعلامية؛ علاوة على انتعاش الجماعات المتطرفة وتنامي انتشارها، وتحديات أخرى يفرضها المحيط الإقليمي والدولي المتهافت؛ وهذه المعطيات مجتمعة تجعل من بلورة حوار داخلي بنّاء وهادئ بين المسلمين بمختلف مذاهبهم خياراً ملحّاً وضرورياً..
ما أحوج المنطقة إلى حوار بنّاء؛ تقوده مختلف النخب السياسية والدينية والمثقفة؛ بصورة تسمح بتعزيز التواصل ونبذ العنف وإعلاء قيمة العقل..
طالما شكلت المحطات القاسية في تاريخ الإنسانية من حروب وصراعات؛ مناسبة لبلورة تصورات وجهود جماعية في سبيل إرساء الأمن وحلّ الخلافات وتجاوز أسبابها.
وفي ظلّ التحديات والمخاطر الراهنة التي تواجه المنطقة العربية والإسلامية والإنسانية جمعاء؛ أضحى تحقيق السلام في مختلف تجلياته وأبعاده؛ مهمّة جماعية ولا تهمّ شعباً دون آخر أو دولة دون أخرى.. بما يفرض التواصل والحوار.
ولا يتأتّى الحوار الناجع والبناء مع «الآخر»؛ إلا بنهج حوار داخلي يسمح ببلورة رسائل غير معتّمة؛ وبانخراط عدد من فعاليات المجتمع؛ منهم علماء الدين والأكاديميون والمثقفون والإعلاميون ورجال السياسة..
وعلى الصعيد الإنساني؛ يتطلب هذا الحوار أيضاً الاقتناع بحتمية التّعايش؛ وفتح القنوات لتواصل مبني على الأخذ والعطاء؛ مع التركيز على العناصر المشتركة وأوجه الالتقاء بين الحضارات في مختلف المجالات؛ بدل التركيز على عوامل الفرقة وعناصر الاختلاف، بما يهيئ ظروف الحوار ويجعله ندّياً ومتوازناً.. في إطار من القيم والمبادئ الإنسانية الراقية.
ناهيك عن التخلّي عن التعصب والاحتقار والهيمنة والتجاهل والشعور بالتفوق وتشويه الحقائق وتأويلها بصور منحرفة؛ مع التوقّف عن استحضار الجوانب السّيئة والصور النمطية بشكل انتقائي لمختلف الشعوب والحضارات؛ وتكريسها عبر مخرجات البرامج التعليمية أو الوسائط الإعلامية..
ويتطلب الحوار البنّاء أيضاً؛ الإيمان بحق الاختلاف واحترام الآخر؛ ومراجعة الخطابات السياسية والثقافية المنغلقة والمتشدّدة التي تولّد سوء الظّن بين أبناء الحضارات الواحدة أو المختلفة؛ وإبراز نقط الالتقاء مع الثقافات الأخرى عوض التّركيز على محاور الخلاف، والإيمان بتلاقح وتواصل الحضارات الإنسانية على اختلافها.
*باحث أكاديمي من المغرب/”الخليج”