بقلم: هيثم شلبي
في مثل هذه الأيام قبل ست سنوات، خرج ملايين الجزائريين ليملأوا الميادين والشوارع في جميع مدن الجزائر وقراها، متخذين من رفض ترشح الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة لعهدة خامسة -وهو الشخص العاجز طبيا حتى عن رعاية نفسه، ناهيك عن رعاية مصالح الجزائريين- شعارا ومدخلا لرفض النظام العسكري الذي يحكمهم منذ الاستقلال، والمطالبة بإسقاطه. حراك استمر بكامل عنفوانه وحيويته أزيد من عام (انتهى رسميا في مارس 2020)، قبل أن تأتي أزمة كورونا رحمة من السماء لجنرالات الجزائر وتساعدهم في إخماد الحراك. ورغم أن الرئيس تبون “المعين” في 19 ديسمبر 2019 اتخذ قرارا بالاحتفال بذكرى 22 فبراير من كل عام، إلا أن هذه الحفاوة الظاهرية لم تسعف الجنرالات في التغطية على عدائهم للحراك، بدليل استمرار اعتقال العشرات من نشطاء الحراك الشعبي “المحتفى به”!!
لكن، وبعد مرور ست سنوات على هذا الحدث غير المسبوق في التاريخ الجزائري، ومع كل المحاولات اليائسة من طرف أركان النظام العسكري لتكريس الانطباع بأن الحراك قد توقف لأنه “أدى أغراضه”، وباستمرار حبس من يسمونهم “العصابة”، والتي اقتصرت عمليا على استمرار اعتقال السعيد بوتفليقة وبعض مقربيه من رجال السياسة والأعمال كأحمد أويحيى وعبد المالك السلال (رئيسي الوزراء الأسبقين) وعلي حداد رجل الأعمال الأبرز؛ إضافة لأزيد من أربعين جنرالا من المرتبطين برئيس الأركان الراحل أحمد قايد صالح!! وتطبيل وسائل إعلام النظام لولادة “الجزائر الجديدة” التي حولت البلد إلى “قوة ضاربة” في القارة السمراء، يبدو السواد الأعظم من الجزائريين غير مقتنع بهذه “البضاعة” المعاد تدويرها بين حقبتي بوتفليقة/ القايد صالح و تبون/ شنقريحة، وهو ما يتضح جليا في عدد لا يحصى من الأحداث والإشارات التي لا تخطئها عين مبصرة أو ضمير حي.
ونبدأ بآخر الأحداث، التي حملت رسائل تهدم كل دعاية “الجزائر الحديثة”، ونقصد ما تداوله الجزائريون عن طوابير الحصول على سيارة فيات “دوبلو” الجديدة، والتي اضطر غالبية الواقفين فيها إلى المبيت أمام مراكز التسجيل من أجل حفظ مكان لهم في اللائحة، بل وشهدت مشادات ومعارك بالألسنة والأيدي بين الواقفين! مشهد يلغي كل إمكانية للحديث المستمر منذ ست سنوات حول تحول الجزائر إلى دولة مصنعة للسيارات؛ بل ويحكم بالفشل على جميع السياسات المتخذة في هذا السياق. فقد منعت الحكومة استيراد جميع ماركات السيارات الجديدة، وحصرت الأمر في الشركات “المصنعة” في الجزائر، والتي لا تنطبق سوى على شركة فيات التي تقوم بتجميع النموذج المذكور حصريا -لا تصنيعه- والتي تستورد معظم مكوناته من المصانع المغربية، زيادة في الهوان والفشل!!! وهكذا، لا يتاح لمواطني “الجزائر الجديدة”، الدولة النفطية التي “ليس عليها ديون خارجية”، وتحتل مركز “ثالث أقوى الاقتصاديات الأفريقية”، شراء سيارة جديدة كما هو الحال في أفقر دولة أفريقية من دول القارة ال 54!!
مشهد الطوابير الأخير أصبح معتادا في “الجمهورية الجديدة” أكثر مما كان عليه الحال في “الجمهورية القديمة”، حيث يضطر الجزائريون إلى الوقوف في هذه الطوابير من أجل الحصول على معظم احتياجاتهم من المواد الأساسية، بدءا باسطوانات الغاز؛ ومرورا بالسكر والحليب والقهوة؛ وانتهاء بالقطاني وغيرها من المواد الغذائية. بل إن آخر الفضائح طالت الاكتشافات الدورية المتكررة لورشات ذبح وتسويق الحمير، وبيعها للجزائريين بسبب ارتفاع أسعار مختلف اللحوم الحمراء.
وكمفارقة إضافية في “جمهورية العسكر الجديدة”، تم التبشير بداية فبراير الحالي، بقرب صدور المراسيم التنظيمية التي ستفعل قرار الرئيس تبون بزيادة منحة السفر للجزائريين لأول مرة منذ 1997!! بحيث سترتفع من 100 أورو إلى 750 أورو!! لكل مسافر جزائري، تصرف مرة واحدة في السنة!! ولا يفيد التساؤل هنا حول كيف يمكن للجزائري أن يسافر وفي جيبه 100 أورو، أو حتى 750 أورو؟ وكيف يمكن لهذا المبلغ أن يغطي مصاريف الإقامة والتنقل والتغذية والمشتريات؟! من جهة أخرى، يتضح أن الجزائري لا يمكنه بهذا المبلغ أن يشتري التذاكر عبر الانترنت ويدفع بالبطاقة البنكية، لأن مثل هذه البطاقات غائبة في دولة الجنرالات، تحديدا للمواطنين، وبالتالي فهم مجبرون على التعامل مع خطوطهم الجوية الفقيرة، أو مكاتب السفر التي انتهى العمل بها في معظم دول العالم!! وللإشارة فقط، فالجزائر الغنية بالنفط والغاز، والتي تروج لتوفر بنكها المركزي لأزيد من 65 مليار دولار من العملة الصعبة، لن توفر بهذا القرار إلا أقل من 19% مما توفره الحكومة المغربية “الفقيرة” وبنكها المركزي الذي لا يملك سوى 35 مليار دولار من العملة الصعبة، حيث توفر لمواطنيها فرصة السفر ومعهم 4000 أورو، يمكنهم استخدامها كأوراق نقدية أو كرصيد في بطاقاتهم البنكية!! فعن أي “جمهورية جديدة ضاربة”، بالله عليكم، يتحدثون؟!!
ثالث الملفات التي تفضح زيف شعارات الجمهورية الجديدة، يتعلق باستمرار حرائق الغابات سنويا، دون أن يتمكن النظام العسكري، بكل ما لديه من مليارات، من شراء طائرات إطفاء تقي مواطنيه مآسي هذه الحرائق التي تطال الأرواح والممتلكات. فضيحة تفاقم من أخرى تتعلق بتركز هذه الحرائق في منطقة القبايل المطالبة بالاستقلال، وهو ما يكرس فشل الجمهورية الجديدة في إقفال هذا الملف المتفجر، بإنهاء مظاهر الحيف والتمييز الذي يحس به أبناء المنطقة، والذي تتجلى أبهى صوره في المقاطعة الجماعية الساحقة لجميع الاستشارات الانتخابية التي ينظمها النظام، محلية كانت أو برلمانية!! واقع بائس يضاف إلى معاناة الجزائريين من غياب الحريات، والذي يتجلى في “تحريم وتجريم” أي نوع من التظاهر حتى من أجل فلسطين، التي يدعي النظام العسكري أنه ينصرها “ظالمة أو مظلومة”!! ناهيك عن قوانين النشر التي ألقي بسببها بعشرات الصحفيين في السجون؛ ومحاسبة الناس على منشوراتهم في وسائل التواصل الاجتماعي؛ وأخيرا، قانون الأحزاب المنوي إقراره على الرغم من معارضة جميع الأحزاب الجزائرية، موالاة ومعارضة (إن كان هناك معارضة!!).
آخر فضائح الجزائر الجديدة داخليا، يتمثل في استمرار صراعات جنرالاته على المناصب والمغانم، والتي أسفرت بعد ست سنوات من استلام الجنرال السعيد شنقريحة “مقاليد الحكم”، عن تفرد الرجل بالتحكم في مفاصل الدولة، مع وجود استثناءات قليلة مرتبطة بالرئيس تبون، وذلك نظير مساهمته في منح عهدة ثانية للرئيس “المكلف بالدعاية في الجمهورية الجديدة”!!
وبالانتقال إلى الساحة الخارجية، للاطلاع على إنجازات وإخفاقات “القوة الضاربة” في أفريقيا، فنجد أن الواقع لا يختلف في سوئه عما يحدث داخليا. فجنرالات الجزائر الجديدة قطعوا جميع العلاقات مع جار الدم والكفاح، المغرب، بحجج لا تنطلي حتى على طلبة المرحلة الابتدائية؛ كما نجحوا في توتير علاقاتهم مع مختلف دول الجوار، بدءا بموريتانيا، مرورا بمالي والنيجر، وانتهاء بليبيا وتونس؛ هذه الأخيرة التي يحاجج الجنرالات بأنهم استطاعوا كسب رئيسها قيس سعيد، مع تيقنهم من خسارة أحزابها وباقي مواطنيها وقواها الحية! هذا العجز الدبلوماسي الذي لم ينجح ثلاثة وزراء لخارجية تبون في تداركه (صبري بوقادوم ورمطان لعمامرة وأحمد عطاف)، تجلى كذلك في فشل الانضمام لتجمع البريكس “لافتقار الجزائر للوزن والهيبة على الساحة الدولية” على حد تعبير وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف!!
مظهر آخر للفشل يتجلى في ملف النظام الجزائري الأول منذ الاستقلال، وهو معاندة الوحدة الترابية المغربية والعمل على تعطيلها بافتعال النزاع حول الصحراء، حيث أن المليارات التي أهدرها الجنرالات، قديما وحديثا، وطيلة خمسة عقود، لم تسعف “القوة الضاربة” في منع سحب العديد من الدول لاعترافها “بجمهورية تندوف” ومرتزقتها البوليساريو، بينما تنجح الدبلوماسية المغربية، شهريا تقريبا، في كسب دولة جديدة لصالح الاعتراف بسيادة المغرب على صحرائه. هزائم خارجية تتوازى مع مليارات مهدرة من طرف السلطة الفاشلة في الجزائر، والتي لا يعرف المواطنين منها سوى “مليار بنك البريكس” و”مليار تنمية أفريقيا”، ومرد ذلك إلى كون القانون في “الجمهورية الجديدة” يمنع رسميا نواب الأمة من مناقشة شؤون الجيش والعلاقات الخارجية، أو الرقابة عليهما، تحت قبة البرلمان!!! في حالة متفردة على الصعيد العالمي لا يوجد مثيل لها في أكثر “جمهوريات الموز” استبدادا وتخلفا!!!
ختاما، فإن أصدق تعبير عن الحالة اليوم في “الجزائر الجديدة”، وفي غياب الحراك الشعبي في الشوارع والميادين، تجلى بوضوح في “الحراك الافتراضي” الأخير عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والذي تمثل في هاشتاغ “مانيش راضي” الذي عبر فيه الجزائريون بشجاعة منقطعة النظير عن عشرات الأسباب التي تجعلهم لا يحسون بالرضى عن سلطات بلادهم، وهي الحملة التي واجهتها السلطات “الجديدة” بنفس الحملة القمعية “القديمة”، غير أبهة بحالة التناقض الصادمة ما بين تشدقها بشعارات الجزائر الجديدة، وواقع الجزائر القديمة، مما يؤكد أن “حكم العصابة” لم ينته، بل تم فقط تبدل مراكز القوى داخله!!!