في الأيام القليلة الماضية أفاد تقرير سبر الآراء الذي أعدته بعض المؤسسات المختصة في الجزائر بأن الجزائريين والجزائريات لا يكترثون بالأحزاب ولا يعوّلون عليها لإحداث تغيير حقيقي في الوضع السياسي الجزائري المتحجّر على مدى سنوات طويلة.
في ظل غياب ثقة أغلبية الشعب الجزائري في ما يدعى بأحزاب المعارضة برز إلى السطح مؤخرا خلاف حاد بين حزب العدالة والتنمية بقيادة عبدالله جاب الله وبين رئيس حركة حزب مجتمع السلم بقيادة عبدالرزاق مقري، وذلك جراء اللقاء الانفرادي الذي جمع بين هذا الأخير وبين أحمد أويحي، رئيس ديوان رئيس الجمهورية عبدالعزيز بوتفليقة والأمين العام لحزب التجمع الوطني الديمقراطي، الشيء الذي اعتبر خرقا للاتفاق الجماعي المبرم بين الأقطاب المشكّلين لتنسيقية الانتقال الديمقراطي والذي ينص على أن الحوار مع السلطة يكون جماعيا ولا يحق لأي حزب معارض أن يحاور بمفرده أي رمز من رموز النظام الحاكم.
المزيد: نظام بوتفليقة وابتذال الثقافة
ويبدو واضحا أنه حتى الآن لا يزال هذا الخلاف قائما بين زعيمي هذين الحزبين الإسلاميين رغم المساعي التي بذلت ولا تزال تبذل من طرف أحزاب وشخصيات معارضة أخرى لها ثقلها داخل الهيكل العام للمعارضة الجزائرية المدعو بتنسيقية الانتقال الديمقراطي. الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى انفجار داخل هذه التنسيقية الناشئة التي لم تحقق إلى يومنا هذا أي مكاسب سياسية ملموسة.
وفي الحقيقة فإن أعضاء تنسيقية الانتقال الديمقراطي كأحزاب أو كشخصيات مستقلة معارضة لا يجمعهم جامع مشترك مؤسس على المبادئ ما عدا معارضة العهدة الرابعة التعسفية التي أوصلت الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة مجددا إلى الحكم ليصبح بموجبها أول رئيس جزائري يقضي عشرين سنة كاملة في قصر المرادية.
وفي هذا السياق تساءل عدد كبير من مراقبي الشأن السياسي الجزائري: هل سيحتوي أعضاء التنسيقية بدايات التصدع بين حزبي العدالة والتنمية وحركة مجتمع السلم أم أن الخلاف بينهما سيتطور ويؤدي بالتالي إلى زعزعة كيان التنسيقية برمتها ويدخل المعارضة في أزمة وجود حقيقية؟
قبل النظر في هذا السؤال ينبغي التذكير بأن حزب حركة مجتمع السلم الإسلامي الذي ينتمي أيديولوجيا إلى جماعة الإخوان المسلمين على المستوى الدولي غير متجانس في مواقف قياداته مع النظام الحاكم بشكل عام ومع الرئيس بوتفليقة بشكل خاص. صحيح أن الرئيس الحالي لهذا الحزب وهو السيد عبدالرزاق مقري قد صرّح في عدة مناسبات بأنه غير راغب في إعادة إحياء تجربة أحزاب الموالاة سيّئة السمعة التي أضرت بمصداقية الحزب الذي يرأسه.
وأوضح بصريح العبارة عن نيته النأي بحزبه عن السلطة، لكن جناح أبوجرة سلطاني، الرئيس السابق لهذا الحزب وأحد الشخصيات المحورية فيه التي شغلت سابقا مناصب وزارية، أعلن مرارا استعداده للقيام بالتعاون مع النظام الحاكم مثلما أبدى رغبته الكاملة في أن يتقلد منصب وزير في حكومة الوزير الأول عبدالمالك سلال. بناء على هذا الانقسام، الذي لم يأخذ حتى الآن شكل الانفصال الكامل بين جناح الصقور الرافض للنظام وبين جناح الموالاة بداخل هذا الحزب، يمكن للمحلل السياسي أن يؤوّل خلفيات ودواعي لقاء عبدالرزاق مقري برئيس ديوان رئيس الجمهورية أحمد أويحي، بأنها لا تمثل بالنسبة إليه التخلي المطلق عن استراتيجيات المعارضة بل إنها تدخل ضمن إطار الترضيات والتنازلات البراغماتية من طرفه لجناح أبـوجرة سلطاني تجنبا لانقسام حزبه أكثر مما هي علامة من علامات الولاء السافر للنظام الذي يرمز إليه أويحي رئيس ديوان الرئيس بوتفليقة.
أعود الآن إلى النظر في السؤال المطروح سابقا من طرف المراقبين المنشغلين بالوضع السياسي الجزائري الذين يرون أن هناك احتمالا في الأفق ينذر بانشطار صف المعارضة. وفي هذا الخصوص بالذات، فإن تحليل مضامين سياسات وتوجهات وأيديولوجيات أحزاب المعارضة وكذلك الشخصيات المستقلة التي تشترك معها في هيكل “تنسيقية الانتقال الديمقراطي” تفضي إلى القول إن الانشطار قائم في الواقع على مستوى البنية العميقة لكل حزب ولكل شخصية من الشخصيات المنضوية تحت لواء “تنسيقية الانتقال الديمقراطي” التي تقدم نفسها ككتلة معارضة من ناحية الشكل الخارجي فقط. وفي الحقيقة فإن مكونات هذه التنسيقية لا تصدر جميعا، وبشكل منسق، عن مرجعيات فكرية وعقائدية موحدة بل إن فيها فصيلين اثنين وبداخل كل منهما فسيفساء متنوع ومتناقض غالبا.
في هذا المشهد العام نجد فصيلا مشكلا من الأحزاب والشخصيات. وبالمقابل هناك فصيل آخر وهو بدوره فسيفساء مكوَن من تيارات متنوعة بعضها وطني إصلاحي، وبعضها الآخر يزعم أنه ينتمي إلى ثنائية طرفاها أيديولوجيا التحديث والعصرنة، وأيديولوجيا الإسلام المعتدل، وبعضها يصنف نفسه بأنه علماني راديكالي ملتزم بفصل السلطات عن بعضها البعض منها فصل الدين عن السياسة.
ولكن الواقع يبرز أن هذا الفصيل الفسيفسائي الذي يقدم نفسه في شكل “تنسيقية المعارضة” خاضع بشكل مطلق للخيار الرأسمالي الاستغلالي المتخلف الذي كرسه ولا يزال النظام الحاكم ويفرضه على الشعب بوسائل القوة والهيمنة الناعمة في آن واحد. الشيء الذي حطم شريحتين أساسيتـين ومكونتين لنسبة ثمـانين بالمئة من الشعب الجزائري، وهما الشريحة الوسطى التي حُولت إلى شظايا وشريحة الفلاحين والمزارعين التي أصبحت تعيش اجتماعيا واقتصاديا على مستوى درجة الصفر.
إلى جانب هذا فإن هذا الفسيفساء بكل فصائله وأفراده يعاني من أزمة بنيوية تتمثل في الفشل في تبني مشروع تنموي اقتصادي وثقافي وفكري وتربوي واجتماعي وطني بديل ومقنع للشعب، وفي إنتاج الزعامات الكاريزمية القادرة على القيادة واستقطاب القاعدة الشعبية إلى جانبها. وأكثر من كل هذا فإن المشكلة الجوهرية الأخرى التي تعاني منها المعارضة الجزائرية تتمثل دون شك في أنها تعارض شبح النظام الحاكم بنفس المنظومة الثقافية والقيمة والسلوكية المتخلفة والدكتاتـورية التي يعتنقها هو ويعيد إنتاجها في كل حين ويكبل بها طموحات المواطنين والمواطنات.
المزيد: متى تعود المعارضة الجزائرية إلى الشعب
*كاتب جزائري/”العرب”