إن الحلول الأمنية التي يحاول النظام الجزائري أن يعالج بها الأحداث الدموية في محافظة غرداية الواقعة في الجنوب الجزائري، والتي انفجرت في الأيام القليلة الماضية، وأسفرت، حتى الآن، على ما يربو عن 25 قتيلا و100 جريح بعضهم في حالة خطرة، لا تنفع ولا يمكن أن توقف النزيف إلا مؤقتا، لأن مثل هذه التجربة قد فشلت في عام 2013 وفي عام 2014 في هذه المنطقة نفسها.
والأدهى والأمرَ هو خروج بعض كبار المسؤولين في الدولة إلى العلن في محاولة منهم لإقناع الشعب الجزائري أن جهات أجنبية هي المسؤولة عن تفجير الصراع المسلح بين ما يسمى بالإباضيين وبين المالكيين، وفي صدارة هؤلاء وزير الدولة ومستشار الرئيس عبد العزيز بوتفليقة والأمين العام لحزب التجمع الديمقراطي أحمد أو يحي الذي صرَح أن الأيادي الخارجية ضالعة في إشعال هذه الأحداث، بدون أن يسمي أية جهة معينة أو يقدم حجة دامغة لا لبس فيها تدعم تصريحه.
وفي الإطار نفسه صرحت قيادة حزب القوى الاشتراكية (المعروفة بتسمية أفافاس) لوسائل الإعلام الوطنية أن الموقف يستدعي “السعي السياسي الذي يدمج كل القوى الحية من أجل وقف النزيف”، كما أبرزت هذه القيادة أن “بلدنا يعيش وضعا صعبا ولا سيما أنه متواجد في إطار سياق إقليمي ودولي تتزايد فيه التهديدات على وحدته الترابية واستقراره واستقلاله أكثر من أي وقت مضى”.
إن الخطابات السياسية التي تمثل قاسما مشتركا لردود فعل أجهزة النظام الحاكم وبعض الجهات المحسوبة عليه، تؤول هذه الأحداث الدموية على أنها مبطنة ويهدف من يقف وراءها إلى تحقيق انفصال منطقة بني ميزاب وإقامة الحكم الذاتي فيها.
لا شك أن هذه النغمة ليست جديدة أو غريبة على كل المتابعين للشأن السياسي الجزائري في الداخل وفي الخارج، وعلى مدى مرحلة الاستقلال برمتها، حيث سبق وأن اتهم البربر (الأمازيغ) في محافظتي بجاية وتيزي وزو بتهمة السعي للانفصال وإقامة دولة خاصة بهم خارج نطاق الدولة الجزائرية التقليدية، وجراء ذلك شهد فضاء هذه المنطقة تعسفات خطيرة تتمثل في القتل والسجن، علما أن سكان هذا الفضاء المذكور آنفا كانوا يطالبون فقط بالديمقراطية والعدالة وبحقوق المواطنة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبالاعتراف بالحقوق الثقافية واللغوية للأمازيغ على مستوى القطر الجزائري كله، وليس على مستوى منطقة واحدة باستثناء بعض المجموعات القليلة التي لا تمثل الأغلبية الأمازيغية التي كانت، ولا تزال، متمسكة بمطلب الانفصال علما أن تأثيرها محدود ولا يشكل موقفها البرنامج الكلي للحركة الأمازيغية المؤمنة بالوطن الواحد لجميع الجزائريين والجزائريات.
يبدو واضحا أن المشكل الحقيقي الذي يفجر الأوضاع في منطقة ميزات بمحافظة غرداية له علاقة جوهرية بفشل النظام الجزائري في التعامل الديمقراطي مع المكونات الإثنية الجزائرية، وفي القضاء على البطالة المتفشية بين صفوف الشباب والشابات، وعدم انتهاجه لسياسات التوزيع العادل للثروات، فضلا عن إخفاقه في التخلص من الأزمات الاجتماعية المتتالية والمكدسة منذ سنوات مثل أزمة العقار والسكن وغيرها.
في الحقيقة فإن محافظة غرداية التي تبعد عن العاصمة 635 كلم، لم تشهد منذ الاستقلال إلى يومنا هذا هندسة إدارية محكمة إذ ليس فيها سوى 9 دوائر و13 بلدية، وزيادة على هذا فإنها تفتقد إلى التنمية الحديثة والمتطورة المستدامة في جميع المجالات. كما أن محافظة غرداية لم تحول إلى قطب سياحي رغم توفر كل الإمكانيات الطبيعية والتاريخية والأثرية التي تجعل منها إحدى مراكز السياحة الصحراوية الناجحة.
لا بد هنا من التوضيح أيضا أن النظام الحاكم، كما المراقبين السياسيين لم يفهموا بعد خصوصية منطقة غرداية وعمقها التاريخي وفرادتها، وفي هذا السياق يلاحظ الباحث الجزائري المتخصص في علم الاجتماع السياسي ناصر جابي الذي قدم لوسائل الإعلام الوطنية منها يومية الفجر تحليلا علميا للعناصر الأخرى التي تفرز إلى السطح العنف الذي ما فتئ يعصف بمنطقة غرداية ابتداء من عام 2013، والذي أسفر حينذاك عن 17 قتيلا وعدد كبير من الجرحى. تركز مقاربة جابي على أن “أحداث غرداية هي نتاج فشل في تسيير الاختلافات والتنوّع، والنظام لم ينتبه إلى أن المنطقة أمام عدم تجانس اجتماعي وثقافي أعيد إنتاجه”.
وفقا لهذا الباحث فقد “قلّ الزواج بين المُكوّنين (الإباضيون والمالكيون)، بعكس الشاوية والقبائل، ولاحظنا عدم الاختلاط في الزواج والسكن، وعدم تجانس في النشاط التجاري، وفي المدرسة ظهر نظامان تعليميان مختلفان، والدولة أضحت قاصرة بحيث لم تبن أحياء جديدة وكبيرة لتشجيع الاختلاط”.
في هذا السياق لاحظ إعلامي جزائري آخر أن نمط سياسات الدمج الارتجالية، وغير الخاضعة لتخطيط علمي، الذي اتبعه النظام الجزائري في تعامله مع واقع الإثنيات في المجتمع الجزائري وخاصة سياسات استحداث ولايات (محافظات) جديدة بقصد القضاء على فرادة هذه الإثنيات، وأن غياب سياسات ثقافية عصرية وديمقراطية مؤسسة ومبنية على الوازع الوطني وليس على ذهنية الشلة أو العشيرة أو القبيلة أو الطائفة الدينية، قد ساهمت، مجتمعة، في جعل الجزائريين لا يفكرون بمنطق المواطنة المشتركة.
في هذا الصدد يضيف هذا الباحث أن سمات جديدة قد ظهرت لدى المكوَن المالكي والمكوَن الإباضي في مرحلة ما بعد الاستقلال وتتمثل في أن “هناك عقليات وطموحات جديدة ظهرت لدى المكوّنين، فالمالكيون يريدون دخول المدينة بهدف الاندماج والشغل، والإباضيون الميزابيون يريدون الحفاظ على ما يميّزهم من نمط معيشة وعمران”. أما الناشط السياسي والمؤرخ الجزائري محند أزرقي فرَاد فقد أبرز في مداخلاته وتصريحاته للصحافة الجزائرية أن انفجار أزمة غرداية هو بمثابة نتيجة وعرض أفرزهما “غياب ثقافة الدولة والسطو على الأحزاب” من جهة، وهي أيضا “قضية عقار وتفاوت اجتماعي” من جهة ثانية.
لا شك أن هذه الانتقادات للنظام الحاكم تتميز بالموضوعية، ولكن المكوَن الإباضي في الجزائر ليس حدثا طارئا، بل إن جذوره متوغلة في التاريخ الوطني، وله إسهام أساسي أيضا في تحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي. ألم تلد منطقة ميزاب الكثير من كبار رجال الإصلاح والثقافة والأدب منهم مفدي زكريا شاعر حركة التحرر الوطني الجزائري الذي عذبته فرنسا وزجت به في السجن، ويُرفع الآن العلم الوطني لنشيده “قسما بالنازلات الماحقات”.
* كاتب جزائري/”العرب”