بقلم: مصطفى القلعي*
تعيش تونس مأزقا نقابيا خطيرا يتجلى في سيل من الإضرابات والاحتجاجات المتناسلة المتوالدة، فلا يكاد ينتهي إضراب إلا وتشتعل إضرابات أخرى. والإضرابات نوعان؛ الأول إضرابات قطاعية منظمة تنظمها وتقودها نقابات مهنية منتخبة في القطاعيْن العام والخاص ويقع أغلبها تحت إشراف الاتحاد العام التونسي للشغل، والثاني إضرابات محلية أو جهوية تتلو احتجاجات شعبية تندلع في مناطق مختلفة من تونس بداعي المطالبة بالتشغيل والتنمية أو للتنديد بعطالة الحكومة وبعجزها عن حلّ المشاكل وإيجاد الحلول حتى لأبسط القضايا. ما هو تفسير هذا المأزق النقابي؟
لقد استمر النظام المؤقت 3 سنوات كاملة في تونس بعد هروب زين العابدين بن علي يوم 14 يناير 2011 وسقوط حكومته وحزبه. لكن النظام المؤقت الذي خلف نظام بن علي لم يقدر على الحد الأدنى الذي يطالب به الشعب التونسي، وإنما استغلته الأطراف التي حكمت طيلته من أجل تنفيذ أجنداتها أو أجزاء منها، بينما تأجلت مطالب التونسيين التي رفعوا شعاراتها أثناء ثورتهم ضد الاستبداد. وقد أصيبت الدولة أثناء الحكم المؤقت بالشلل وتعطلت أجهزتها عن العمل بدعوى المؤقت والافتقار إلى الشرعية اللازمة لتحقيق أهداف الثورة.
ولذلك راهن الشعب التونسي على الانتقال من الحكم المؤقت إلى الحكم المستقر ليشرع في تحقيق آماله في التنمية والعدالة الاجتماعية والتقدم. وهو ما دفع التونسيين إلى الإقبال على صناديق الاقتراع، موفى سنة 2014، ليختاروا من توسّموا فيهم من الأحزاب والسياسيين القدرة على تفعيل طموحاتهم وآمالهم بعد حملات انتخابية لم تخلُ من الشوائب والمداورة والوعود المنتفخة والمغالطات.
وللتذكير فإن الحكام الجدد الذين أفرزتهم الانتخابات لم يأتوا إلا محمولين على أجنحة الاحتجاجات والاعتصامات والمظاهرات التي شارك فيها حزب نداء تونس الفائز في التشريعية والرئاسية، لأنه كان من مسانديها والمدافعين عنها.
كما كان من أكبر المستظلين بخيمة الاتحاد العام التونسي للشغل لاسيما أثناء قيادته للحوار الوطني الذي آل إلى إنجاز الدستـور التونسي الجديد في 26 يناير 2014، بالتزامن مع تخلي حركة النهضة عن الحكومة وتشكيل حكومة كفاءات مستقلة تنهي المرحلة الانتقالية، وتعدّ الظروف الملائمة للانتخابات التشريعية والرئاسية.
المشكلة أن الشعب التونسي لم يسمح له بالاختيار المتروي الذي يؤدي إلى الاقتراع القائم على الاقتناع بالبرامج. وإنما كانت الحملات الانتخابية تدار بأدوات نفسية لا بجدل حول البرامج. ووضع الشعب التونسي تحت ضغط نفسي كبير مهدّد بالإرهاب والجريمة وبإفلاس دولته وبتضاعف المشاكل والقضايا التي ثار ضدها. فاستعملت حركتا نداء تونس والنهضة آلية الاقتراع المفيد التي زادت من خوف التونسيين وحصرت اختيارهم بين الحزبيْن، وضيّقت على الشعب التونسي مساحة الاختيار وحدت من حريته. وكانت كل حركة تثير الخوف من الأخرى. وهو ما خدم كلتيهما ففازتا معا، وتشاركتا في الحكم بعدما كانتا تتجاهران بالعداء وتتبادلان التخوين.
ولكن تشارك حركتي نداء تونس والنهضة في الحكم وضمانهما لأكثر من 170 صوتا نيابيا في الأغلبية من بين 217 لم يغير شيئا في واقع التونسيين. حيث أن الحكومة التي أفرزها الائتلاف الجديد بانت تبعيتها الكاملة لمؤسسة رئاسة الجمهورية رغم أن الدستور التونسي الجديد يجعل أهم السلطات التنفيذية بيد الحكومة. وقد نجحت رئاسة الجمهورية في فرض رئيس حكومة مستقل لا ينتمي إلى أي حزب، وبالمقابل رئيس الجمهورية كان رئيس الحزب الفائز في الانتخابات. وهو ما خلق وضعا معكوسا لم يتوقعه التونسيون ولا يحدث في الديمقراطيات إذ يفترض أن يكون رئيس الجمهورية مستقلا باعتباره رئيس كل التونسيين، ورئيس الحكومة من الحزب الفائز لينفذ سياسته وبرامجه وخططه، وليس هذا واقع الحال في تونس.
هذا الواقع نتجت عنه حكومة ضعيفة لا تدعمها الأحزاب التي تشكلها، ولا تحمل ما يكفي من وضوح الرؤية لإدارة السلطة التنفيذية. كما كان الاتفاق الأخير الذي أمضته رئاسة الجمهورية في واشنطن حول الشراكة الكاملة بين تونس والولايات المتحدة الأميركية علامة على أن برامج الحزب الحاكم تحملها رئاسة الجمهورية لا الحكومة. ورئاسة الجمهورية تعمل بتنسيق كامل مع حركة النهضة، إذ أنّ آخر لقاء أجراه رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي قبل سفره إلى الولايات المتحدة كان مع راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة. هذا إضافة إلى أن الوفد الذي رافقه إلى واشنطن ضم ممثلين عن أحزاب الائتلاف الرباعي المشارك في الحكومة فقط دون بقية الأحزاب، ولم تشارك فيه المنظمات الوطنية الكبرى. فقد تعامل رئيس الجمهورية وكأنه رئيس حكومة.
وفي حين تُترك المشاكل الحقيقية التي يعاني منها الشعب التونسي جانبا تلقي رئاسة الجمهورية بتونس في خضم اتفاق غامض وطويل المدى دون أن تأخذ إذن البرلمان التونسي ولا إذن الحكومة ودون أن تشرح للرأي العام محتواه. ولم ير التونسيون أي دور لرئاسة الجمهورية في طرح المسألة الاقتصادية الاجتماعية باعتبارها المسألة الرئيسية المنتجة للمأزق النقابي الذي تغرق فيه تونس.
إن حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية لن يكون أبدا في الخارج، وإنما الحل في الداخل إذا كانت هناك برامج حقيقية ملمّة بالوضع التونسي وبتعقيداته وضفافه وإكراهاته ومعدّة له ما يلزم من الخطط لمعالجته. ولكن كل وزراء حكومة الحبيب الصيد اليوم يقدّمون نفس الإجابات التي كان يقدّمها وزراء حكومة مهدي جمعة متى اشتعلت في قطاعاتهم الإضرابات. والجواب الجاهز دائما هو ضرورة العودة إلى رئاسة الحكومة التي تتولى بدورها استشارة وزارة المالية التي تؤكد العجز عن الإيفاء بأي التزام مالي، فلا تحل المشاكل وتتواصل الإضرابات وتتضرر تونس وشعبها وأمنها ودولتها. وهكذا يستمر دوران الحكومة في حلقة مفرغة.
ما اتّضح للتونسيين هو افتقار الحكومة للبرامج. ولذلك لا أوراق عند الوزراء ولا خطط لتنفيذها. وإنما وضع كل وزير أمام إدارة منهكة وموازنة مالية هزيلة ومطلبية نقابية ملحة بسبب أزمة التضخم المتفاقمة وارتفاع الأسعار الجنوني واشتداد أزمة البطالة، فمن أين له أن يأتي بالحلول. لم يبق للوزراء إلا الإعلام يحاولون من خلاله مداراة العجز الحكومي وتخفيت الغضب الشعبي الهادر وتأجيل العاصفة.
الواضح اليوم بجلاء أن المأزق النقابي يحيط بنظام الحكم الجديد، فالذين منحوا أصواتهم للفائزين هم أنفسهم الذين يحتجون ويضربون ويعتصمون. وليس هذا المأزق النقابي إلا تعبير صريح عن إيمان نسبة كبيرة من التونسيين في مختلف القطاعات بخيبتهم في من انتخبوهم.
*كاتب وباحث سياسي من تونس/”العرب”