وكأن شيئا لم يحدث لا في الجزائر ولا في محيطها العربي !! إنتخابات في جبهة التحرير الوطني تكرس الحزب الواحد والقائد الواحد والخط الواحد، وكأننا في عام 1965 وليس بعدها بنصف قرن، وهو الأمر الذي إن دل على شيء فإنما يدل على تعمق أزمة النظام الجزائري، وندرة أو انعدام البدائل أمامه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يدل على أن هذا النظام المتكلس قد اختار الهروب إلى الأمام، وركن إلى وهْم أن درس الذكريات السيئة للعشرية السوداء لا زال كافيا للجم التوق الشعبي الجزائري للحرية والعدالة والكرامة.
والأدهى، أن أزمة النظام في الجزائر من العمق بحيث أن المتنفذين فيه لا يستطيعون الاتفاق على بديل لرئيس غائب عن المشهد فعليا ورمزيا، ويصرون على إعادة إنتاج وتنصيب هذا الرئيس “شرفيا” على رأس الأحزاب والمؤسسات الوطنية، استسهالا للحكم باسمه بدل خوض تجربة البحث عن بديل يحفظ ماء وجه الرئيس والرئاسة والنظام برمته، لما يكتنف هذه التجربة من تجاذبات من شأنها المس بمصالح مختلف الأجنحة المتصارعة.
مظهر ثالث للأزمة، ودائما تحت عنوان انعدام البدائل، هو أن المتنفذين في النظام لم يجدوا بديلا لعمّار سعداني ليضعوه على رأس جبهة التحرير الوطني، المفترض أنها حزب الأغلبية الرائد، وهمشوا بالتالي رجالا أقوى “نظريا” في هذا الحزب المتهالك، وبالتالي جعلوا أو كرّسوا وضع الحزب كإطار تاريخي مفرغ من محتواه مهمته الوحيدة هي مباركة الجالس على كرسي الرئاسة، حتى لو كان “كرسيا متحركا”.. ولو نظرنا إلى وضع حزب السلطة الثاني “حزب التجمع الوطني الديمقراطي” فسنجده لا يختلف كثيرا سوى أن رئيسه أحمد أويحيى، يبدو في موقع أفضل نظريا لخلافة بوتفليقة، إذا ما استقرت توازنات القوى على اختياره.
المظهر الرابع للأزمة، أن المتنفذين في النظام لا يزالون متمادين في تجاهل ما تطلبه طبقة سياسية كاملة– على ما تعانيه بدورها من أمراض-، رغم أنها تعكس بالضرورة كثيرا أو قليلا مما يدور في المجتمع، ويتصرفون كما لو أنهم غير معنيين بصنع- ولو شكليا- أدنى قدر من مظاهر الحياة السياسية النيابية الديمقراطية. ومما يزيد من خطورة الوضع، أن هذا التجاهل قد طال حتى أبسط المطالب الشعبية، وعجز عن التعامل مع أي من مشاكلها، وما أزمات منطقة القبايل وغرداية، ناهيك عن أزمة استخراج الغاز الصخري، والطريقة الأمنية الفجة التي تصرف النظام بها في جميع هذه الأزمات وغيرها، إلا دليل على افتقاد هذا النظام لأية حلول مبتكرة.
أما المظهر الخامس للأزمة، فيخص سياسة دفن الرأس في الرمال ودحرجة الأزمات بدلا من حلها، وحرف الأنظار عن أزمات الداخل بالتركيز على افتعال أزمات خارجية، وتضخيم “النجاحات” التي تنجزها الدبلوماسية الجزائرية. إذ لا معنى لاستمرار التمسك “بوضع الأزمة” واتخاذ الجار المغربي “عدواً” بدل استكشاف أقصر وأنجع السبل لجعله حليفاً، والاستفادة بما هو مضئ في تجربته السياسية والاقتصادية وغيرها. كما أن المبالغة في تصوير الجهد الدبلوماسي الجزائري في كل من مالي وليبيا بأنه “فتوحات” سيعود بأثر عكسي عندما لا تجد هذه “المنجزات” ما يسندها على أرض الواقع. والغريب، أن هذه “الفتوحات” النظرية تتم بموازاة واقع صارخ يقول بأن أصحاب الكلمة الفصل في تنظيم “داعش” الناشط في ليبيا والعديد من دول الصحراء هم جزائريون، يضاف إليهم تونسيون وماليون وآخرون من النيجر وتشاد وموريتانيا، على غرار تركيبة تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، كل ذلك دون أن يعتبر الممسكون بزمام الأمور في النظام بأن لديهم مهمة وطنية تتمثل في التنسيق على أعلى مستوى مع دول الجوار المغاربي أساسا من أجل مواجهة هذا الخطر الإرهابي العابر للحدود.
مظهر سادس للأزمة يحس به كل جزائري، ويتعلق باستشراء الفساد في مختلف مرافق ودواليب النظام، نتيجة وثمنا للتحالف المعلن بين نخبة المؤسسة العسكرية ونخبة رجال الأعمال، وهو الأمر الذي يهدر المليارات المحصلة من أموال البترول والغاز، تذهب كعمولات وسمسرات لصفقات السلاح والمشاريع الوهمية والكمالية، ناهيك عما ينهب ويهرّب ليتم تقاسمه خارج البلاد، في ظل المنظومة القانونية المحلية العاجزة عن حماية المال العام.
وأخيرا، فلو استرسلنا في ذكر مظاهر الأزمة في النظام الجزائري، والتي تعلن عن نفسها واضحة كل يوم، فلن تكفينا مساحة هذا المقال، لكن يبقى الدعاء بأن يحفظ الله الجزائر وأهلها من شر مقبل الأيام، والذي تصر قيادته على الامتناع عن عمل أي شيء لمنع وقوعها، عبر اختيارها دحرجة الأزمات والهروب منها إلى الأمام، في انتظار اليوم الذي سنفيق فيه وقد “استعصى الرتق على الراتق”، وهرب رموز وصناع تلك الأزمات المتلاحقة ليتمتعوا بصرف ما نهبوه خلال عقود الفساد، خارج بلد يغرق في الفوضى –لا قدر الله-.