لا ينسى الضحايا -مهما طال الزمن- ذكرياتهم مع الألم الذي تسببه النار في حوادث الحريق أو الكوارث، أو حتى تلك الصغيرة منها التي تمر كلمح البصر من الشدة.
اختزنت الذاكرة لدينا هذا الرعب من النار لأسباب كثيرة، ربما كان من أهمها الترهيب الذي كنا نسمعه ونحن صغار من نار جهنم، التي سيصلى بها من كان كافراً، -طبعاً- مع تبرعات وتطوعات من المتشددين الذين يهددونك بالنار، حتى إن كنت طفلاً في الرابعة، وكأن طرق التأديب والتربية قد انقرضت فلم يبقَ إلا ذلك.
هذا جانب من القضية، ناهيك عن أننا كلنا – ومن دون استثناء – لا يمكن أن تمر حياتنا سَلِسَةً وسهلة، من دون تجربة حريق أو لسعة في المطبخ أو غيره.
هذه العوامل جعلت للنار بشاعةً في الذاكرة لا يمكن زوالها، ومن ثم نتفهم رد الفعل الغاضب والمتألم والثائر من جميع شعوب العالم قاطبة على جريمة تنظيم «داعش» بحق الطيار الأردني معاذ الكساسبة، إذ أحرقوه بدم بارد، من دون أي اعتبار لهول الألم الذي يتعرض له الضحية، ومن دون أي مبالاة بمشاعر عائلته من أب وأم وأخ وأخت وزوجة وأطفال وأقارب وأصدقاء، ومن دون أن يرفّ جفن لأي رد فعل عالمي إنساني.
ربما كان الأردن قبل هذه الجريمة الخسيسة يتأرجح بين مؤيد ومعارض للانضمام إلى التحالف الذي يقصف تنظيم «داعش»، إلا أن هذا الأخير أعطاهم الدافع والحافز، لكي يتحدوا بجميع أطيافهم وعشائرهم واختلافاتهم الفكرية، بمن فيهم المتشددون إسلامياً، الذين كانوا يحملون نوعاً من التعاطف مع التنظيم، الجميع من الملك إلى العامل والموظف يرغب في القصاص من هؤلاء المشوّهين.
حرق الكساسبة أصبح نقطة اللاعودة بالنسبة إلى الأردنيين، فهو قد جرحهم في الصميم، وإذا كنا نحن العرب قد تفجرت مشاعرنا بكل أنواع الغضب والقهر، فما بالك بمن ينتزع منهم قلوبهم وذكرياتهم وتوأمهم؟
ذكّرني الحرق بالتونسي محمد البوعزيزي، الذي أحرق نفسه احتجاجاً على ما حدث له من إهانة جعلته يقدم على هذا الفعل، الذي حوَّل تونس إلى بركان من الثورة، التي امتدت فيما بعد كالهشيم إلى كثير من الدول العربية في ما يسمى «الربيع العربي». وفي كلتا الحالتين ليس الحرق وحده كان السبب الذي جعل الثورات تشتعل، فقد كانت البؤر وأسبابها موجودة، ولكنها كانت الشرارة التي أشعلت الفتيل.
نعود إلى السؤال المهم والخطير: لماذا يفعل «داعش» ذلك؟ أكانوا من السذاجة والغباء بأن يقدموا على أعمال غاية في السفالة والانحطاط وينتظروا ترحيباً وتهليلاً أم كانوا يتوقعون أنهم بقطع رؤوس الأبرياء، ومن ثم حرق الكساسبة، أن ترفع اليابان أو الأردن الرايات البيضاء؟ هم يعرفون أن هذا مستحيل، إذاً ما السبب يا ترى؟
أكذب عليكم إن قلت إنني أملك الحقيقة، ولكن كتحليل أولي لا أستبعد أحد احتمالين لا ثالث لهما، أولاً: أن يكون الموضوع أكبر من «داعش»، وأنه ليس إلا أداة لدى منظمات إرهابية كبرى، تريد أن تحوّل المنطقة إلى بؤرة من التمزق والفساد والحروب، لكي تستفيد من ترويج أسلحتها في المنطقة، مستغلة بذلك كثيراً من المغرر بهم من المغيبين الذين لا يفهمون فلسفة الجهاد، وبعضهم لا يعرف -أصلاً – أصول الشريعة، بل ويخيل إليه أن مريده الذي بث في عقله الإرجاف يملك صكوك الجنة، ليثبت أنه جهل وأيّما جهل.
السبب الآخر: هو أنهم دخلوا عش الدبابير، وليس هناك مجال للرجوع أو التراجع. هم الآن يعيشون مرحلة اليأس، فكل يوم يمر يثبت لكل من على وجهه عصبة من الجهل أنه قد خُدع بهؤلاء الذين يذبحون الإنسان باسم الإسلام، بعد أن كان يؤمن بأهداف يعتقد بأنها سامية بالنسبة إليهم.
الحديث عن أدوار في نشأة «داعش» من دول كبرى ليس حقيقياً، ولكنه يحمل جوانب من الشك، كونهم يفتقرون إلى الجدية في القضاء عليه.
نشأة «داعش» كاحتلال الكويت من النظام العراقي وكثورات «الربيع العربي»، تتعامل معها الدول الكبرى كما أبو سفيان في معركة أحد، عندما أخذ المشركون – وكان منهم – آنذاك يمثلون بجثث المسلمين فقال: لم آمر بها ولم تسؤني. نعم الدول الكبرى (وبالذات أميركا) لم تأمر بها ولكن لم تسؤها، وكيف تسوؤها وهي مستقبلاً ستعمل مشروع مارشال آخر بمقابل، يدعم أجيال أميركا المستقبلية إلى أبد الآبدين؟
* كاتب سعودي/”الحياة” اللندنية