تمر ليبيا، كحال كثير من البلدان العربية الأخرى، بواحدة من أصعب المراحل في تاريخها، لدرجة أن استمرار وجودها كدولة موحّدة أصبح هو نفسه على المحك. فالاقتتال الدائر حاليا في شرقها وغربها وبنسبة أقل في جنوبها لا يمكن إذا ما استمر إلا أن يكون عنوانا لحرب أهلية شاملة يصعب تحديد مآلاتها ونتائجها. المتفائلون يرون في كل ذلك مخاضا طبيعيا وسنّة من سنن الثورات، وبالتالي فلا يجب تهويل ما يجري، كما أنه لا يمكن عمل الكثير حياله. غير أن هذا التفاؤل يتجاهل حقيقة أن التاريخ ما هو إلا تراكم لتجارب إنسانية، وبأن الشعوب التي لا تستفيد من تجارب غيرها مرشحة لتكرار ما ارتُكِب من أخطاء في التجارب السابقة، فليبيا ككيان سياسي موحد ليست دولة غارقة في القدم، بل إن فكرة الدولة القومية فيها غير موجودة، أو ربما بمعنى أدق غير مستقرة، مما يجعلها أقل قدرة على احتمال تبعات الزلزال السياسي الذي ضربها في عام 2011. وعليه، فإن هذا التفاؤل لا يعدو أن يكون وسيلة يلجأ إليها الكثير من الساسة الدوليين لتبرير الأخطاء التي ارتكِبت في ليبيا، ولتبرير الفشل في التعامل مع الأزمة الليبية الراهنة.
الحقيقة أن خمسة أسباب رئيسية تقف وراء تدهور الأمور في ليبيا ما بعــد الثورة. الأول، انتشار الأسلحة بجميع أنواعها، التي تُقدر بأكثر من 20 مليون قطعة سلاح استولى عليها الناس فرادى وجماعات، فأصبحت وسيلة لتصفية الحسابات ولابتزاز الدولة، بل حتى للسيطرة عليها لتحقيق مشاريع بعضها عابر لحدود القطر الليبي. وللأسف إلى الآن لا يوجد أي مشروع وطني أو دولي للتعامل مع هذه المشكلة. الثاني، تركة الحقبة السابقة التي عنوانها ليس فقط انعدام المؤسسات، خاصة مؤسستي الجيش والشرطة، وإنما انعدام ثقافة المؤسسات لدى العامة والخاصة، الأمر الذي أدى إلى شيوع ثقافة الغنيمة، والتعامل مع المؤسسات بعقلية المالك والمسيطر. الثالث، الرغبة المحمومة لمجموعات الإسلام السياسي في الوصول إلى السلطة، وبأي ثمن، في عملية تجاهل تام للواقع السياسي والاجتماعي الليبي. صحيح أن هذه المجموعات قد لعبت دورا بارزا في الإطاحة بنظام العقيد القذافي، وصحيح أيضا أن المجتمع الليبي هو مجتمع محافظ بطبيعته، ولكن ذلك لا يعني أنه مجتمع مؤدلج، أو أنه مستعد في هذه المرحلة للقبول بوصول هذه المجموعات إلى السلطة، بدليل أن الأغلبية المحافظة هي نفسها من أعطت الأغلبية للتيار المدني في جُل الانتخابات التي شهدتها ليبيا بعد الثورة.
إن محاولات تيار الإسلام السياسي لتجاهل مخرجات الصندوق، ولخطف الربيع العربي في ليبيا، كما في غيرها من البلدان العربية الثائرة، كانت دائما عاملا دافعا في اتجاه تأزم الأمور. السبب الرابع، ضعف وتشرذم وقلة خبرة النخبة السياسية الليبية التي لم تحسن تقدير التحديات التي ستواجهها ليبيا، بعد انتصار الثورة، كما أنها فشلت في التعامل مع هذه التحديات، وفي بلورة مشروع وطني يحوّل الشعور والزخم الثوري إلى مشروع لإعادة بناء ليبيا الجديدة. السبب الخامس، هو انسحاب المجتمع الدولي (العربي والغربي) من المشهد الليبي بعد سقوط نظام القذافي في عملية اعتقاد، يُعتَرف الآن بأنها كانت خاطئة، بأن مشكلة ليبيا تتمثل في القذافي، وبأنه وبمجرد زواله ستُحل كل مشاكل البلاد. هذا الفراغ بعث برسائل خاطئة لكل من يملك السلاح بالداخل، وإلى بعض حلفائهم من الدول الإقليمية بأنه في ليبيا يمكن التصرف بحرية بعيدا عن أي رقابة حقيقية من المجتمع الدولي. هذه الأسباب مجتمعة أدت بشكل تدريجي إلى تدهور الأمور في ليبيا، وصولا إلى حالة الاقتتال الراهن في كثير من مناطق البلاد. الأمر الذي يتطلب معالجة سريعة قبل أن تتحول ليبيا إلى دولة فاشلة لن تستطيع الكثير من الدول العربية تحمل تبعاتها، مثل هكذا معالجة لا يمكن أن يتم من دون دور عربي أكثر فاعلية يأخذ بعين الاعتبار تعقيدات المشهد الليبي الناجمة بالأساس عن الأسباب سالفة الذكر.
صحيح أن المجتمع الدولي ممثلا في الأمم المتحدة، وكذلك الدول الغربية الكبرى، كالولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا، يحاول وبجهد محمود ودؤوب حلحلة الأزمة الليبية، صحيح أيضا أن جامعة الدول العربية حاضرة أيضا في هذا الجهد المقدر، ولكن من الواضح أن الأمور على الأرض تتطور كل يوم بشكل يتجاوز هذه الجهود الدولية، الأمر الذي يستلزم أن تأخذ الدول العربية الكبرى والفاعلة زمام المبادرة لقيادة الجهود الدولية الساعية لتحقيق الاستقرار في ليبيا؛ فهذه الدول الشقيقة، كمصر والجزائر والمملكة العربية السعودية، هي الأقدر على فهم الواقع السياسي والاجتماعي الليبي. كما أنها الأقدر على تقدير مخاطر سقوط ليبيا في أحضان مشاريع آيديولوجية لا تشكل ليبيا إلا حلقة من حلقات الوصل فيها. وأخيرا هي الأقدر على إدراك حقيقة أن المنطقة العربية لا تحتمل العبث الذي يقوم به البعض في ليبيا. أمن الشقيقة مصر وتنمية الشقيقة تونس لن يتحققا من دون استقرار الأوضاع في ليبيا. هذه الموجة غير المسبوقة من التطرف التي تجتاح الجزء الشرقي من المنطقة العربية حاليا تحتاج إلى وضع استراتيجية عربية شاملة لا تعتمد فقط على ردات الفعل في هذه المنطقة، وإنما على خطوات استباقية لمنع انتقالها إلى المناطق الأكثر هشاشة في الجزء العربي من الوطن العربي.
بكل تأكيد، فإن الحضور الأممي والغربي في المشهد الليبي هو ضمانة إضافية بالنسبة لنا تمنع وقوع بلدنا ضحية لحسابات إقليمية ضيقة، في المقابل، فإن تجربة الأعوام الأربعة الماضية أوضحت أن المقاربة الغربية لمعالجة الأوضاع في ليبيا تفتقد الكثير من الجرأة ومن الفهم العميق لحقيقة ما يجري هناك؛ فما تحتاجه ليبيا في هذه المرحلة يتجاوز بكثير مجرد عملية استنساخ لنظريات طُبقت في بلدان أخرى، من دون الأخذ بعين الاعتبار الظروف الثقافية والاجتماعية الخاصة بهذه البلدان. ما نحتاجه هو عمل سريع يهدف إلى الحفاظ على ليبيا بلدا موحدا، وهذا يتطلب دعما حقيقيا لمسيرة الحوار الوطني، ودعما مباشرا لمؤسساتنا الأمنية الوليدة، بعيدا عن الحسابات السياسية المعقدة والمتعلقة بإدارة بلد أصبح استمرار وجوده محل شك. ففي فقه الأولويات، فإن الحفاظ على حياة المريض أولى من السهر على راحته النفسية. وحدهم العرب يستطيعون فهم هذه المعادلة الحزينة.
* السفيـر الليبي لدى فرنسا/”الشرق الاوسط”