هل يصلح الدستور ما أفسدته السياسة في تونس؟

غزلان جنان
وجهات نظر
غزلان جنان29 يناير 2014آخر تحديث : منذ 10 سنوات
هل يصلح الدستور ما أفسدته السياسة في تونس؟
هل يصلح الدستور ما أفسدته السياسة في تونس؟
786f856dfc58fd9ed7b812d2cbc13c76 - مشاهد 24

سيظل تاريخ الأحد 26 يناير(كانون الثاني) 2014 راسخا في تاريخ تونس الحديث وفي ذاكرة التونسيين، فكما كان تاريخ 14 يناير 2011 لحظة مفصلية بعد مغادرة زين العابدين بن علي السلطة، فإن ليلة الأحد الماضي يمكن عدها فرصة جديدة لتونس والتونسيين من أجل تدارك الشعارات والأحلام التي جرى إطلاقها فيما سمي ثورة الياسمين.. فقد صدقت «الجمعية التأسيسية» بإجماع أعضائها على الدستور الجديد لتونس، بعد قطع منعرجات شديدة الخطورة، وبعد تقديم تنازلات متبادلة بين مختلف القوى السياسية هناك.
لتونس قصة طويلة مع الدستور، فقد تشكل النظام السياسي لتونس ما بعد المرحلة الاستعمارية، نتيجة القرار الشهير للمجلس القومي التأسيسي والقاضي بإلغاء النظام الملكي وإعلان قيام تونس كدولة جمهورية وكان ذلك يوم 25 يوليو (تموز) 1957. علما بأن المجلس القومي التأسيسي كان من مهامه وضع دستور للبلاد، وكان تحت سيطرة «الحزب الحر الدستوري» الجديد الذي كان يتزعمه الراحل الحبيب بورقيبة، إذ فاز الحزب بجميع مقاعد المجلس، حيث كانت سنة واحدة بعد إعلان الاستقلال كافية لتغيير النظام السياسي برمته، لكن طموح بورقيبة كان بغير حدود، حيث جرى إعلانه رئيسا للجمهورية الوليدة، واستمر ارتباط تونس بالدستور حتى عندما منحت صفة رئيس مدى الحياة لبورقيبة منتصف السبعينات من القرن الماضي، في واحدة من أكثر فصول الدساتير غرابة التي أشرت على أن طريق تحقيق الديمقراطية طويل في تونس، وأنه من المستحيل تحقيق انتقال ديمقراطي اعتمادا على الآليات الدستورية القائمة، وحتى عندما كان الدستور بلا معنى في ظل وجود سلطة مطلقة، فإن هذه السلطة سواء في عهد بورقيبة أو بن علي، تشبثت برمزية مصطلح الدستور، حيث أصر بن علي أيضا على تسمية الحزب الجديد «التجمع الدستوري الديمقراطي».
لكن، رغم السلبيات التي يمكن ربطها بالتراث الدستوري التونسي، فإنه لا بد من تأكيد أن وجود هذه القواعد الدستورية، وقبول القوى السياسية بها في مرحلة انتقالية بعد 14 يناير 2011، جنبا تونس مخاطر الانهيار الكلي لمؤسسات الدولة، وقد تمكنت النخب الصاعدة من إيجاد مساحات عمل مشتركة مع بقايا النظام السابق، للمرور بتونس بدرجة قصوى من الأمان إلى أرضية تمكن من قيام نظام جديد – هذا النظام لم يكتمل بعد – لكن المقدمات – كما يقال – من جنس الخواتم، فهل يشكل الدستور الجديد الذي أقرته «الجمعية التأسيسية» مساء الأحد، نقطة انطلاق لهذا النظام الجديد؟ وهل تستطيع تونس أن تقدم نموذجا لانتقال سلمي وهادئ يحافظ على مقدرات البلاد، ويضع أسس التنافس الديمقراطي على السلطة في المستقبل، حيث الكلمة الأولى والأخيرة يجب أن تكون لدى الشعب التونسي؟
لا بد من استرجاع الطريق الذي عبره التونسيون ليصلوا إلى لحظة وضع الوثيقة الدستورية الجديدة، حيث عرف مسار التغيير لحظات مد وجزر خطيرة، وقع فيها تماس شديد بين مختلف القوى السياسية الموجودة على الساحة، وربما شكلت لحظات التماس هذه فرصة لجميع الأطراف للوقوف على احتمالات الربح والخسارة. كما أن العوامل الخارجية، كتجربة الحرب الأهلية غير المعلنة في ليبيا وموجة العنف في مصر، لعبت دورا مهما في اتجاه جعل المسار السياسي والتوافقي الوطني هو الحل الأمثل والأقل تكلفة، فكان التوافق الطريق الوحيد لتأمين المستقبل، كما شكل وقوف الجيش على مسافة واحدة من جميع الأطراف: «بديلا» معنويا في الحياة السياسية العامة وضاغطا «أخلاقيا» على جميع الفاعلين. إضافة إلى ذلك، يمكن القول بأن «الاقتصاد السياسي» لدولة كتونس وتجربة المعارضة والقوى المدنية فيها والتراكمات الإيجابية للنظام السابق على مستوى المنظومة التعليمية، ساعد النخب السياسية على رفض اللجوء إلى العنف لحسم الخلافات القائمة، التي تعد طبيعية في إطار مرحلة انتقالية يحاول فيها الجميع رسم ملامح الدولة، وفق اختياراته الآيديولوجية، لكن ولأنها مرحلة انتقالية فرضت على الجميع أن يتحلى بروح كبيرة من التوافق، هذه الكلمة التي تعد كلمة سحرية في هذا المسار.
الكثير من القوى السياسية في تونس، وخاصة حركة النهضة، لم تكن لتقبل بهذا النهج التوافقي لولا عدة عوامل تضافرت في لحظة معينة وساهمت في دفع الاختيارات المتشددة داخلها إلى الوراء لتفسح الطريق أمام خطاب واقعي وبراغماتي يستحضر تجربة «الإخوان» في مصر، التي أدى اختيارها الانفراد بالسلطة إلى ثورة شعبية أطاحت بها في عامها الأول، كما أن دخول «النهضة» في تحالف مع تيارات اشتراكية وليبرالية لاقتسام الرئاسات الثلاث (رئاسة الدولة، رئاسة الحكومة، رئاسة الجمعية التأسيسية)، خفف كثيرا من مواقفها، خاصة في القضايا الخلافية التي تضمنتها الوثيقة الدستورية والتي ارتبطت في جزء كبير منها بقضايا الهوية وحقوق المرأة وحرية العقيدة، فتراجع شعبية «النهضة» في الشارع التونسي من جهة، وعدم رغبة حلفائها في الترويكا التخلي عن قناعاتهم التحررية، جعلا اختيار حسم الدستور من خلال استفتاء شعبي، ينطوي على مخاطر كبيرة على التحالف، لأن التصويت كان سيجري في جزء كبير منه استفتاء على تجربة «النهضة» وحلفائها في الحكم، وذلك على خلفية الطلب الاجتماعي والاقتصادي، وليس على خلفية ما يتضمنه الدستور من فصول ومواد وما يرسمه من سلط وحدود بين هذه السلط.
كذلك، هناك عامل أساسي لا يمكن تجاوزه في أي تحليل لما وصل إليه الفرقاء التونسيون، ألا وهو العامل الخارجي، حيث إن تونس لا تشكل دولة بأبعاد استراتيجية تتشكل فيها وعبرها مصالح إقليمية ودولية، كما هو الشأن في سوريا ومصر، ولا هي دولة بترولية تنام على ثروة كبيرة كما هو شأن ليبيا، ولا هي دولة تعيش على تعددية عرقية أو طائفية أو مذهبية تستنجد فيها كل طائفة بامتداداتها في الدول الإقليمية، كما هو شأن اليمن والعراق ولبنان، هذا الوضع أتاح لمختلف القوى السياسية فرصة قياس المصلحة في إطار الحدود الوطنية لتونس. يبقى السؤال هو: هل تستمر حالة التوافق إلى أبعد مدى، وخاصة على مستوى تشكيل الحكومة الجديدة، وعلى مستوى وضع الإطار القانوني للعمليات الانتخابية المقبلة، التي بكل تأكيد سترسم ملامح الخريطة السياسية المستقبلية؟ أيضا، هناك تحديات قادمة ترتبط بتأويل نصوص الدستور، خاصة أن التجربة أثبتت أن النصوص الدستورية ذات الطبيعة التوافقية تكون صياغتها في أحيان كثيرة تسمح بقيام تفسيرات متعددة، وهو ما سيظل رهينا بميزان القوى مستقبلا. البعض يقول بأن تونس قدمت درسا جديدا لدول ما يسمى الربيع العربي بتصديقها على دستور توافقي. وشخصيا، أعتقد أن تونس، وخاصة حركة النهضة، استفادت كثيرا من الدرس المصري ومن الانحسار العام لتيار الإسلام السياسي في المنطقة.
“الشرق الاوسط”

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق