تواجه تونس تحديات كبرى، وتحيق بتجربتها مخاطر جسيمة، جلها اجتماعية اقتصادية. صحيح أن الخارطة الحزبية في هذا البلد لم تتوطّد بعد، لكن عدم استقرارها على الجلبة التي يثيرها ليس الخطر الرئيس على الديمقراطية التونسية الوليدة، والتي سبق أن فصلنا في عناصر صمودها. فعموم الناس يعكفون على مسائل معاشهم، في ظل دستورٍ يكفل الحريات، ولا يأبهون كثيراً بالتحالفات المتغيرة، ولا بالأشكال التي تتخذها الخلافات على زعامة هذا الحزب أو ذاك.
تكمن المهمة حالياً في الحفاظ على هذه الديمقراطية الوحيدة في المنطقة العربية. ولا أعتقد أن ثمة خلافاً على هذه المهمة بين القوى السياسية القائمة؛ ومؤقتاً، يوفر التحالف القائم حالياً عموداً للخيمة السياسية، يقيها من الانزلاق إلى فوضى سياسية، قد تشكل خطراً على التجربة، وقد تولد نزوعاً إلى العودة إلى السلطوية. ومن هنا، أهمية هذا التحالف المانع للاستقطاب، سيما وأن العمل السياسي لا يخلو من قوى ترى الوطن كله من زاوية التنافس الحزبي، ولا ترى حتى مسألة الخطر على النظام الوليد بمجمله.
ختمت كتابي عن الثورة التونسية المجيدة بتقدير أن التناقض الرئيس الذي سيبقى فاعلاً يحدد مصائر السياسة التونسية هو التناقض الاجتماعي الاقتصادي، ولا سيما تمظهره في مسألة المراكز والأطراف، يصح هذا على صعيد البلاد كلها (ساحل وداخل)، كما يصح على مستوى كل مدينة كبيرة على حدة. جاء هذا التشخيص في العام 2011، حين كان الشارع العربي في أوج تفاؤله. وأصبحت هذه مسألة مصيرية حاليا.
كان محرّك انتفاضة القصرين اجتماعياً اقتصادياً، وقد استوعبت الديمقراطية التونسية الحدث بدون عدد كبير من الضحايا. وقدمت نموذجاً مختلفاً في التعاطي معه. فما هي ضمانات فعل الاحتجاج القادم؟ وكم سيبلغ حجمه؟
لكي يكون بالإمكان التعامل مع هذه الإشكالية البنيوية، لا بد من سياساتٍ تنموية حقيقية، ولكن شرط هذه وجود نمو أيضا. إنه شرط ضروري، وغير كاف.
ولكن تونس تتعرّض إلى ضيق اقتصادي شديد يعيق النمو. بعض عناصره جيو استراتيجية، وسياسية. فقد أثر عدم الاستقرار في ليببا على مصادر الدخل من العمالة التونسية فيها، وزاد على الاقتصاد عبء استقبال لاجئين من الجارة الشقيقة. كما أن جرائم الإرهاب استهدفت هذه الديمقراطية الوليدة، ومسّت مباشرة بالسياحة التي تشكل المصدر الثاني لموارد العملة الأجنبية في تونس. فالدخل منها يعادل 20% من هذه الموارد، ونحو 7% من حجم الاقتصاد. كما تأثر الاستثمار بمسألة عدم الاستقرار التي يثيرها الإرهاب، كما يثيرها رد الفعل الانفعالي عليه، والذي يضخم من تأثيره في سياق التنافس السياسي الحزبي. وما زلنا نجهل تأثير تداعيات أي تدخل عسكري قادم في ليبيا بشأن تصدير الإرهاب إلى تونس.
إقرأ أيضا: تونس .. الوحدة الوطنية في وجه الديمقراطية
لم تتعلم الدول الغنية في عالمنا درس التجارب السابقة. ولا يفكر سياسيوها بضرورة دعم التجربة التونسية بالهبات والاستثمارات (إذا لم يمكن شطب الديون)، مع أن هذا أجدى من صرف الأموال على الأسلحة والجيوش لاحقاً لمحاربة الإرهاب الذي سوف ينجم عن انهيار هذه التجربة الديمقراطية الفريدة، أو عن زيادة عدد الشباب اليائسين من إمكانية تحسين ظروف معيشتهم في ظلها.
تمثل الموازنة التونسية نحو ثلث الناتج المحلي الإجمالي (أي ثلث حجم الاقتصاد). ويذهب منها نحو 45% للأجور، و37% لخدمة الديون. ويعيق إنفاق أكثر من ثلث الميزانية في خدمة الديون من الصرف على مشاريع بنى تحتية، وأخرى تنموية توفر فرص عمل، وحتى على خدماتٍ قد تخفف من التناقضات الاجتماعية القائمة. ولقد ارتفعت ديون تونس الخارجية حتى مارس/آذار 2014 إلى نحو 25 مليار دينار، تستنزف نحو 40% من الناتج المحلي الإجمالي. وكشفت موازنة العام 2015 عن زيادة الديون الخارجية بنسبة 2.2%. ومن دلائل ضعف الاقتصاد انخفاض الادخار الداخلي من 22% إلى 12%. وارتفعت نسبة البطالة التي بلغت وسطياً، وفق الأرقام الرسمية، نحو 15.2% من قوة العمل، لكن توزعاتها مختلفة، ففي المناطق الغربية يصل حجمها إلى نحو 25%. وأكثرها خطورة البطالة في أوساط الخريجين التي بلغ حجمها بين 31-57% في منطقة سيدي أبو زيد مثلاً. وهو نوع البطالة الأكثر تسبباً بالإحباط وإثارة للغضب الاجتماعي، أخذاً بعين الاعتبار التوقعات التي يخلقها التعليم الجامعي لدى الشباب.
ويرتبط ارتفاع حجم البطالة بتراجع معدلات النمو، حيث إن معدل النمو الحالي يتراوح بين 2-2.5%، بينما يحتاج التشغيل إلى معدل نمو سنوي لا يقل عن 6%، لامتصاص البطالة واستيعاب حجم الوافدين الجدد من الشباب إلى سوق العمل، وذلك في مرحلة استمرار ما يطلق عليه الباحثون في العلاقة بين السكان والتنمية بـ”انفتاح النافذة الديموغرافية”، والذي يعني رفع وتيرة العرض الديموغرافي لقوة العمل، بينما يحدث التوتر في ضعف استيعاب الطلب الاقتصادي على هذا العرض (وهذه الطفرة الديموغرافية وارتفاع نسبة الشباب من عوامل الثورات العربية في الأعوام الأخيرة).
وفي المقابل، يقلل ضعف الاستثمارات، وتراجع التحويلات عموماً من الخارج، من احتمالات إيجاد فرص عمل.
تحتاج مواجهة هذه التحديات إلى سياسات تنموية عادلة، وما أصبحنا نسميها الديمقراطية الاجتماعية التي تسند الديمقراطية السياسية في البلدان النامية؛ وشرطها الضروري تحقيق ارتفاع في نسبة النمو، فلا تنمية من دون نمو.
وفي هذه المرحلة، يحتاج البلد العربي الوحيد الذي توحد حول دستور ديمقراطي حقيقي، ويحكم بموجبه، إلى دعم ومساندة، لكي يتمكن من البدء في تحقيقها وتطبيق سياسات تنموية. ولا يجوز أن يتخذ قرار دعم الاقتصاد التونسي كقرار اقتصادي محض، متعلق بالربح فقط الذي يمكن أن يحققه الدعم؛ بل هو قرار سياسي، ذو أبعاد جيو- استراتيجية، يمكن أن يراها حتى غير الديمقراطيين، إذا كانوا عقلانيين على الأقل. فليس من الضروري انتظار الانهيارات ونشوب الثورات، أو انتظار الوساطات السياسية الدولية بعد الحروب، لتقام مؤتمرات المانحين ومجموعات الدعم.
كاتب عربي/”العربي الجديد”