التقييم السياسي لتجربة الجزائر المتعلقة بنظام الحكم منذ الاستقلال وإلى غاية الأحد الماضي 7 فبراير الجاري، عشية موافقة البرلمان بأغلبية ساحقة على الدستور المعدّل (499 نائبا من أصل 517 نائبا فيما صوت بـ(لا) نائبان وامتنع 16 آخرون عن التصويت)، يقر ثلاث حقائق.
الأولى: أن جميع الذين وصلوا إلى منصب الرئيس، يُستثنى منهم محمد بوضياف وعلي كافي لأنهما لم يعمرا طويلا في الحكم، اعتمدوا دستورا خاصا بهم أو على الأقل عدّلوا الدستور الذي بين أيديهم بما يتناسب مع أهدافهم الظاهرة والخفية، وأهمها البقاء في السلطة لأكبر فترة مُمكنة.
ففي عهد أحمد بن بلّة، أول رئيس للجزائر المستقلّة، تم اعتماد دستور 1963، وفي عهد الرئيس هواري بومدين، اعتمد دستور 1976، وقد سبقه في نفس السنة نقاش واسع حول الميثاق الوطني، وفي عهد الشاذلي بن جديد اعتمد دستور 1989. وبعد انتخاب الرئيس اليامين زروال بسنة، أي في 1996، اعتمد دستور جديد، وبعد ست سنوات من ذلك التاريخ، أي في 2002، قام الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة بتعديله ليجعل من الأمازيغية لغة وطنية، ثم عدَّله مرة أخرى في 2008 ليلغي عدد العهدات المنتخبة، ويترشّح لفترة ثالثة، وقد كان له ذلك، والتعديل الجديد هو الثالث، ولا ندري إن كان الأخير، خاصّة، وأنه هو الذي سيرعى هذا التغيير غير مبال بانتقاد المعارضة له، وتركيزها على حالته الصحيّة، وهو ما نستشفه في كلمته التي وجهها للشعب بعد المصادقة على الدستور، وقرأها نيابة عنه رئيس البرلمان عبدالقادر بن صالح، حيث اعتبر المصادقة على البرلمان “تدشينا لمرحلة تاريخية جديدة تحمل تطورات ديمقراطية غير قابلة لأيّ تراجع”.
الحقيقة الثانية، أن كُل رئيس يكرّس سلطته بناء على الماضي، من ناحية صناعته للفعل، المنجز في نظره، بل إنه قد يحول مشاركته في حل المأساة، فرّ منها وقت الشدة وعاد إلى البلاد بعد أن لاحت في الأفق بوادر للحل، إلى منجز سياسي، وهذا يظهر جليّا في تجربة الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة في الحكم لأربع فترات رئاسية متتالية (16 سنة إلى غاية الآن).
إقرأ أيضا: بعد المصادقة على الدستور..هل دخلت الجزائر مرحلة ما بعد بوتفليقة؟
والحديث عن الديمقراطية انطلاقا من إنشاء الدساتير في الجزائر أو تعديلها هو ضرب من الوهم، لأن جميع الذين حكموا الجزائر استندوا في أحقيَّتهم بالسلطة إلى مشاركتهم في الثورة، وهي مرجعيّة باطلة، كون معظم الجزائريين شاركوا في الثورة، ناهيك على عدم الاعتراف بتطور المجتمع، الأمر الذي ترتب عليه توظيف الشرعية التاريخية بصيغة مخالفة لطبيعتها، حتّى غدت حائلا دون تقدم الأجيال الجديدة، التي تجاوز عمرها اليوم العقد الخامس، وربما لهذا السبب أصبحت الشرعياّت؛ التاريخية والثورية وأخيرا العسكرية، عقدا لدى معظم الجزائريين.
الحقيقة الثالثة، أن طبيعة الحكم في الجزائر، وعلى مستوى الرئاسة تحديدا، في حالة هروب دائم إلى الأمام، صحيح هي مُنْجذبة إلى الماضي، ومُسْتندة إليه، وُمعوِّلة عليه، ولكنها تتحارب مع أشباحه الأحياء والأموات، الأحق بالحكم أو الأكثر قبولا وتأييدا من الشعب من جهة، وتعمل على تزييف وعي الشعب من جهة أخرى.
فمثلا، في الوقت الذي تواجه فيه الجزائر أزمة اقتصادية قد تقضي على مُدَّخراتها وتُعِيدها إلى سنوات المديونية، تُشغل الرأي العام بأمور تعرف أنها لن تتحقق مستقبلا، فالأمازيغية لن تصبح لغة وطنية عامة حتى لو كانت النيات صادقة والتطبيقات عملية والدعم غير محدود، لأسباب كثيرة، منها أن الأمازيغية ليست مشكلة إلا في أذهان السياسيين، وأنها لهجات متعددة لا يمكن تجميعها في لغة واحدة حتى لو تمّ الإجماع حول حروفها، وأنها لا تمثل إجماعا وطنيا حتى عند الأمازيغ أنفسهم إلخ.
الأمر ذاته نراه بالنسبة لتحديد فترة حكم الرئيس بعهدتين فقط، فقد سبق للرئيس السابق اليامين زروال أن أقرّ هذا وغيَّره بوتفليقة، ثم أعاده اليوم، ونفس الفريق الذي أشرف على اعتماده والترويج له في عهد زروال، هو الذي يروّج له اليوم تماما مثلما فعل عند الإلغاء، وتجربة التعامل مع الدساتير في الجزائر كشفت عن إبعاد للنصوص أو تحايل عليها، أو رفض نتائجها بالقوة، وأن الرئيس حام للدستور بقدر ما يحقق من مصالح لجماعات الضغط أو الفساد، لكن حين يقترب منها بالإبعاد أوالمتابعة، يتم إقصاؤه ولن يحميه الدستور.
من القضايا الكبرى المطروحة في الدستور المعدّل، والتي أثارت نقاشا واسعا، هي مسألة المواطنة، حيث لن يعتلي المناصب العليا للدولة مزدوجو الجنسية، ولا يحق لمن عاش عشر سنوات في الخارج أن يترشح لمنصب الرئيس، وظاهر هذه المادة وحتى طرحها يشيان بتلبية رغبة اجتماعية، لكن في حقيقتها معادية لمعنى المواطنة أولا، وتعيد الميراث التاريخي المر، المتمثل في الصراع بين الداخل والخارج منذ سنوات حرب التحرير، وفي الوقت الظاهر تحاول من خلالها إبعاد المنافس المنتظر رشيد نكّاز، وأيضا إبعاد السياسيين الذين عاشوا خارج الجزائر لسنوات، ومنهم عبدالحميد الإبراهيمي رئيس الحكومة الأسبق، الذي عاد من بريطانيا الأسبوع الماضي.
القضايا السابقة، وهي أمثلة حية عن فهم جزائري لطبيعة الحكم، المصحوبة بعقدة الشرعية، تحمل سادية تجاه المنافسين والشعب عموما، تختفي وراء المطالب الكبرى، وتبشّر من خلال النصوص الدستورية بمستقبل ديمقراطي لم يستطع الرئيس الحالي أن يوجد له أرضية أثناء حكمه لأكثر من 16 عاما، ناهيك على أنه عمل على تعميق أزمات الحاضر، إذْ كيف للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، الذي أقام في الخارج لأكثر من عشر سنوات ثم عاد بعد أن هدأت البلاد ليصبح رئيسا، يمنع الذين يقيمون في الخارج من الترشح؟ وكيف له أن يعيد طرح المسألة الأمازيغية، وهو يدرك أنها توظف سياسيا من أجل ضرب الوحدة الوطنية؟
الإجابة جلية في تجربة حكام الجزائر من بن بلّة إلى بوتفليقة، إذ عقّدتهم الشرعية التاريخية وعقّدتنا معهم، ومع ذلك فقد كانت مقبولة حين كان الهدف منها جمع المواطنين حول مشروع تحققت من خلاله منجزات هامّة، لكنها اليوم نهاية لمرحلة تنذر بصراع دام حول السلطة بات قريبا، وعندها سيكون هذا الدستور المعدل جزءا من الماضي.
كاتب وصحفي جزائري/”العرب”