خلال أشهر معدودة على أصابع اليد الواحدة اتخذ الرئيس عبد العزيز بوتفليقة من القرارات الجريئة ما لم يحدث أن اتخذها رئيس سابق عليه بامتداد عقود من الزمان!.. وأظن أنه من الممكن وصف ما جرى ويجري على يديه بأنه انقلاب سياسي يقوده الرئيس الشرعي للبلاد!
وقد بدا الرئيس الجزائري٬ في كل قرار جريء اتخذه٬ أنه يرد بشكل غير مباشر وبطريقة عملية على الذين راحوا يشككون في قدرته على أن يعيد تنظيم مايراه في حاجة إلى إعادة تنظيم!
وكانت البداية يوم قرر في سبتمبر (أيلول) الماضي إعفاء الجنرال محمد مدين٬ رئيس جهاز المخابرات٬ من منصبه. وقد يقول قائل هنا٬ إن إعفاء مدين من المنصب قرار عادي٬ لأنه ليس أول جنرالات المخابرات الذين يودعون مناصبهم ولن يكون آخرهم.. ولا بد أن هذا صحيح في جزء منه٬ ليبقى الجزء الآخر٬ أن مدين لم يكن أي جنرال٬ بحيث يمر قرار إعفائه دون أن يستوقف المتابعين لواقع الحال في الجمهورية الجزائرية.. فلقد بقي الرجل في مكانه ربع قرن من الزمان٬ وكان مجرد ذكر اسمه٬ في أي مجلس٬ كافًيا أن يكف الحاضرون عن الهمس وعن الكلام٬ فإذا بالجنرال الذي ظل اسمه مجرد اسمه مرة أخرى مثيًرا للخوف على مدى 25 سنة٬ خارج الموقع المخيف فجأة٬ وإذا به في بيته في لحظة!
وما كاد الصخب الذي صاحب القرار يخفت قليلاً٬ حتى كان الرئيس بوتفليقة قد عاجل المتابعين للشأن العام في البلد من داخله أو من خارجه بقرار آخر أشد وأقوى!
إقرأ أيضا: أحزاب المعارضة الجزائرية والقاعدة الشعبية المفقودة
لقد قرر تعديل مادة الدستور٬ التي تحدد فترة بقاء الرئيس في القصر٬ ليصبح المدى الزمني المسموح به للرئيس في منصبه فترتين اثنتين فقط.. كل فترة خمس سنوات٬ ليس هذا فقط٬ بل وأضاف في التعديل الذي من المتوقع أن يقره البرلمان٬ خلال هذا الشهر٬ مادة أخرى تحصن مادة فترة الرئاسة ضد أي تعديل في المستقبل!
وفي اليوم ذاته الذي عَّدل فيه مادة الرئاسة دستورًيا وحصنها٬ كان قد قرر أن تكون اللغة الأمازيغية لغة رسمية ثانية للبلاد بعد اللغة العربية٬ وهو قرار أظن أن من شأنه أن يعزز قيم المواطنة الحقيقية في البلاد٬ حين يحس من خلاله الأمازيغي أن لغته المحلية موضع احترام من جانب رأس الدولة ومسؤوليها٬ شأنها بالضبط شأن اللغة العربية. إنها مسألة من شأنها أن تجعل كل مواطن هناك يشعر بأن له في الوطن مثل ما لأي مواطن آخر فيه٬ أًيا كانت لغته التي ينطق بها٬ وأن الوطن جامع لأبنائه٬ وليس مفرًقا بينهم.
ثم كان القرار الثالث٬ قبل أيام٬ عندما قرر الرئيس حل جهاز المخابرات العسكرية الذي كان يتبع الجيش٬ وإنشاء جهاز آخر في مكانه اسمه «مديرية المصالح الأمنية»٬ على أن يتبع الجهاز الجديد رئاسة الجمهورية بشكل مباشر.
وفي ظني أن القرار الثاني بشقيه هو القرار الأهم بين القرارات الثلاثة٬ ليس عن تهوين من أمر القرارين الآخرين٬ ولكن لأنه لا شيء يضيف إلى كيان الدولة٬ أي دولة٬ ولا شيء يدعم تماسكها٬ مثل أن تكون لدى كل مواطن قناعة بأنه وأي مواطن آخر سواء.. واعتقادي أن قرار اللغة الأمازيغية يصب في هذا الاتجاه٬ ويبني في هذا الطريق.
هذا عن الشق الثاني في القرار الثاني٬ ليبقى الشق الأول فيه٬ الخاص بمادة الرئيس٬ هو أهم الأهم٬ لا لشيء٬ إلا لأن تداول السلطة باستمرار وانتظام هو الدواء المعالج لكل داء في الدولة بكل مفاصلها.
تداول السلطة٬ أفقًيا بالذات٬ أو حتى رأسًيا٬ داخل التنظيم السياسي الواحد٬ يترك يقيًنا لدى كل مسؤول في البلد من أول الرئيس شخصًيا إلى أصغر مسؤول سياسي آخر بأن بقاءه في مكانه ليس أبدًيا٬ وأنه بالتالي يمكن أن يكون محل محاسبة ومساءلة في أي لحظة٬ وحين تكون مثل هذه الفكرة حاضرة في مستويات الدولة العليا فإن مضمون الأداء العام فيها سوف يختلف.
كل ما أرجوه ألا يأتي أحد لاحًقا٬ ويصور للرئيس العودة عن تعديل هذه المادة٬ فلقد عانينا من ذلك في مصر في نهايات أيام السادات الذي كان قد عَّدل الدستور في أول عهده بالسلطة٬ ليجعل من حقه ومن حق أي رئيس آخر يأتي من بعده٬ أن يبقى في السلطة فترتين اثنتين٬ كل فترة ست سنوات.. فلما أوشكت فترته الثانية على الانتهاء جاءَمْن أوحى إليه٬ في البرلمان٬ بتعديل الدستور٬ بما يجعل بقاء الرئيس مفتوًحا دون سقف٬ وهو ما جرى فعلاً في مايو (أيار) 1980!
المدهش حًقا أن السادات لم ينتفع من وراء تعديل تلك المادة الدستورية بشيء٬ فلقد جرى اغتياله بعدها بعام ونصف العام٬ لينتفع بها نائبه حسني مبارك٬ ويبقى في السلطة بموجبها ثلاثين عاًما متصلة!
وما يبعث على الاطمئنان كثيًرا في مادة الدستور الجزائري أن الرئيس قرر تحصينها بمادة أخرى٬ بحيث تكون بعيدة عن مطمع أي راغب في البقاء في الرئاسة لأكثر من فترتين اثنتين!
وسوف ينصلح حال عالمنا العربي عندما يأتي الرئيس فيه إلى منصبه٬ ثم يغادره حًيا إلى بيته٬ لا إلى السجن طبًعا!
صحافي وكاتب مصري/”الشرق الأوسط”