هذا هو الشهر السادس من السنة السادسة للثورة في تونس من 17 ديسمبر 2010 تاريخ اندلاع الشرارة الثورية في محافظة سيدي بوزيد بعد إضرام محمد البوعزيزي النار في جسده، إلى 14 يناير 2011 يوم ترك زين العابدين بن علي الحكم. الثورة التونسية يعجّل القائمون على رأس المشهد في تونس باختصارها في ذكرى للإحياء البروتوكولي المتعجل دون أدنى تعديل في طبيعة المشهد بكل أجزائه ومكوناته.
5 سنوات عجاف مرّت على التونسيين بعد اندلاع ثورتهم ونجاحها في إنهاء حكم متسلط بأدوات سلمية كانت درسا للعالم. ولكن لا مواربة في أن سنة 2015 هي سنة الخيبة الكبرى للتونسيين، إذ تلقوا ضربات قاصمة أصابت ما بقي من آمالهم في مقتل وضاعفت من توجّسهم ومخاوفهم على مستقبلهم. ولحالة الخيبة هذه مظاهر وتجليات عديدة لا يخطئها المتفحّص في واقع الشعب التونسي بعد 5 سنوات حكمت تونس خلالها 7 حكومات، وتولت مطلع سنة 2016 حكومة ثامنة هي الثانية لرئيس حكومة الائتلاف الرباعي المعيّن بعد انتخابات 2014 الحبيب الصيد.
من مظاهر خيبة التونسيين ارتفاع نسبة المصابين بحالات الاكتئاب إلى أكثر من 40 بالمئة من التونسيين. كما تنامى الإحساس بالفشل واليأس الاجتماعيين اللذين يتجليان في ظواهر اجتماعية متعددة كالعنف بمختلف أشكاله والانقطاع المدرسي، إذ تجاوز عدد الأطفال المنقطعين عن الدراسة 110 آلاف منقطع السنة الماضية. ومن مظاهر الفشل واليأس أيضا الطلاق إذ يبلغ مستويات مفزعة بأكثر من 1000 حالة شهريا. هذا إضافة إلى التجنّد الطوعي ضمن التيارات والحركات الإرهابية في الداخل والخارج الذي يقدر بحوالي 7 آلاف تونسي.
وبلغت الجريمة الاجتماعية في تونس مستويات قياسية، إذ تنوعت بين العنف والسرقة والقتل والتهريب والرشوة والتهريب والعقوق والتحرش والاغتصاب والمخدرات. وقد تجاوزت الجرائم المبلّغ عنها أربع حالات كلّ ساعة. وتعود النسبة الأكبر منها إلى أسباب اقتصادية بسبب الفقر المتزايد والتفاوت الطبقي المطّرد والتنمية الجهوية المفقودة والأحياء الشعبية المهملة.
ومن مظاهر الخيبة التي تدخل بها تونس سنتها الثورية السادسة عجز حكومتها الكامل عن التعامل مع معضلة البطالة التي كانت السبب الرئيسي في اندلاع الثورة. تجلى هذا العجز في إعلان الحكومة إيقاف مناظرات الانتداب في الوظيفة العمومية عدا الأمن والجيش والصحّة. وهو ما ضاعف انتشار إضرابات الجوع واعتصامات المعطّلين عن العمل لا سيما من أصحاب الشهائد العليا مثل المنتمين السابقين إلى الاتحاد العام لطلبة تونس المفروزين أمنيا والذين حرموا من حقهم في العمل بسبب أنشطتهم النقابية في الجامعة.
إقرأ أيضا: هل أنهى الإرهاب وهم “ثورة الياسمين” التونسية؟
ولكن لا بد من التأكيد على أن تونس تدخل سنة الثورة السادسة بمشكلتين كبيرتين؛ الأولى متعلقة بدوران مؤسسات الحكم الثلاث، والثانية تتصل بحركة نداء تونس الحاكمة. فلا واحدة من مؤسسات الحكم تعمل بالشكل المناسب، إذ سيعرف مجلس نواب الشعب تحولات كبرى وانقلابا في موازين القوى بعد انشطار حركة نداء تونس واستقالة نواب منها واعتزامهم تكوين كتلة نيابية جديدة. وهو ما سيجعل كتلة حركة النهضة الأولى من حيث الأغلبية ولا يعرف التونسيون ما الذي تخفيه الأيام وما سيترتب على ذلك.
أما الحكومة فعرفت مطلع 2016 تغييرا هيكليا ذهب بنصف الوزراء وبكل كتاب الدولة بعد سنة واحدة من العمل الحكومي. فما الذي ستفعله الحكومة الجديدة بخيارات غير اجتماعية وبميزانية مصادق عليها أكثر من نصف مواردها من التداين وبرؤية تنموية غائبة؟ وما الذي سيجنيه الشعب التونسي من تغيير أسماء الوزراء دون تغيير السياسات والخيارات؟
ورغم كل تأكيدات رئاسة الجمهورية على أنها لا تتدخل في الشأن الحكومي، فإن الرأي العام التونسي مجمع على أن رئيس الجمهورية هو الذي يسيّر الحكومة بشكل أو بآخر، وأن رئيس الحكومة يكتفي بتنفيذ تعليماته. تجلى ذلك في السياسة الخارجية في علاقة بالملفين الليبي والسوري خاصة. وتجلى أيضا في الخيارات الاقتصادية التي يلحّ عليها رئيس الجمهورية وتنفذها الحكومة، والقائمة على الاقتراض والخضوع لمقررات المؤسسات المالية الدولية المانحة.
كما تدخل مؤسسة رئاسة الجمهورية التونسية السنة السادسة بهزة سياسية من ارتدادات أزمة انشطار حركة نداء تونس، فالرجل القوي في الحركة محسن مرزوق، الذي أدار بنجاح الحملتين الانتخابيتين التشريعية والرئاسية لنداء تونس، والذي التحق بقصر الرئاسة بقرطاج وزيرا مستشارا لرئيس الجمهورية، والذي وقّع باسم تونس في واشنطن على بروتوكول التعاون العسكري والاستراتيجي مع الولايات المتحدة، والذي كان مرشحا للعب أدوار أكبر في تونس، يخرج من الرئاسة ثم من الحركة ليؤسس حركة جديدة ويتحول إلى خصم سياسي أو ربما أكثر لحزبه الذي شارك في تأسيسه وإدارة شؤونه ووصوله إلى الحكم.
حركة نداء تونس خذلت التونسيين مرتين؛ الأولى حين تنكّرت لحملاتها الانتخابية وأشركت معها في الحكم خصمها اللدود حركة النهضة الإخوانية، وكانت من وراء ذلك تطمح إلى استغلال مرجعيتها الدينية الإخوانية في المعركة التي يخوضها الإرهاب على تونس، ولكن الرهان فشل فشلا ذريعا وتلقت تونس أخطر الضربات الإرهابية على أمنها واقتصادها.
والثانية تعلقت بحركة نداء تونس نفسها، إذ صدمت التونسيين تلك المعركةُ المعلنة بين أجنحتها ومنتسبيها على المناصب والمصالح. وهو واقع أقرّ به مؤسس الحركة ورئيس الجمهورية الحالي الباجي قائد السبسي الذي اعترف بأن حركته لم تكن في حجم التحدي الذي يتطلبه الحكم ولم تقدّر المسؤولية الشعبية التي كلفها بها الشعب التونسي. وانتهى بها المآل إلى الانقسام إلى شقين متخاصمين متعاديين يتبادلان الاتهامات الخطيرة بالعمالة والخيانة العظمى والتوريث والممارسة الاستبدادية.
تدخل تونس السنة السادسة للثورة بتجريب حكومة ثامنة وببرلمان لم تثبت أوراقه وبرئاسة جمهورية تتدخّل في الشأن الحزبي وبرئيس يمارس النظام الرئاسي خلافا للدستور وبتنمية غائبة وبخيارات سياسية واقتصادية مكررة رغم ثبات فشلها وبمشاكل اجتماعية متراكمة وبإرهاب يقترب أكثر فأكثر.
*كاتب وباحث سياسي تونسي/”العرب”