بقلم: حسونة المصباحي*
كنت في التاكسي متّجها من قلب العاصمة التونسيّة الى ضواحيها الشماليّة البديعة لما جاء الخبر عبر احدى القنوات الإذاعية عن عمليّة ارهابيّة آستهدفت نزلا سياحيّا في مدينة سوسة الساحليّة الجميلة التي كانت في يوم من الأيام تلقب ب”ميامي” التونسيّة.وقبل ذلك كنت في نقاش حام مع سائق التاكسي الاربعيني الذي قال لي إن الأحزاب التي جاءت بها “ثورة الياسمين” مخصيّة وهي لا تفعل شيئا آخر غير الثرثرة وبيع البلاد بأبخس الأثمان”.
فلمّا سمع الخبر ازداد سائق التاكسي حماسا لما كان يقول، وأضاف وقد اسودّ وجهه من فرط الغمّ: “سيدي… هذا دليل قاطع على ما كنت أقول… تونس تموت امام أعيننا ولا واحدا من هذه الأحزاب الكثيرة بقادر على انقاذها من هذا الموت الذي يبدو انه بات محققا!”.
مرارة سائق التاكسي هي مرارة الغالبية الساحقة من التونسيين!
وقد عاش التونسيون خلال الأربعة سنوات الماضية التي أعقبت انهيار نظام زين العابدين بن علي أياما سود بسبب العمليات الارهابية التي ذهب ضحيتها ثلاثة من المناضلين السياسيين (لطفي نقض، وشكري بلعيد، ومحمد البراهمي)، وعشرات من المدنيين والعسكريين ورجال الأمن، غير أن يوم الجمعة التاسع من رمضان الموافق للسادس والعشرين من شهر يونيو(حزيران) 2015، كان اليوم الأشد سوادا. ليس ذلك فقط بسبب الضربة القاصمة التي طالت مدينة تعتبر رمزا لنجاح السياحة التونيسية، والتي ستكون لها بالتاكيد انعكاسات وخيمة على الاقتصاد التونسي الذي يشهد أزمات خطيرة لم يسبق لها مثيل، وإنما لأن هناك شعورا لدى التونسيين بأن بلادهم غرقت في مستنقع الإرهاب والجريمة السياسية وقد تظل غارقة فيه لأمد طويل.
وربما لهذا السبب أصبح الاستياء من “ثورة الياسمين” سائدا لديهم. لذا لم يعودوا يترددون في الجهر بأن الثورة المذكورة التي زعم المتحمسون لها بأنها سترسي دعائم دولة “الكرامة والحرية”، تحولت في ظرف زمن قصير الى “نقمة” على البلاد والعباد، ولم يحصد منها التونسيون غير المزيد من الخيبات والمرارات والأزمات التي تزداد استفحالا يوما بعد آخر!
ويبرز استياء التونسيين من “ثورة الياسمين” جليّا من خلال تعليقات الشارع، وشبكات التواصل الإجتماعي. فقد اعلن كثيرون ومن مختلف الأجيال، أن الكلام عن “ثورة الياسمين” أضحى “باطلا” و”مستهجنا”.
وعلى صفحته على الفيسبوك، كتب احدهم يقول: “على الذين لا يزالون مصرين بعد الكوارث التي حدثت على الحديث عن “ثورة الياسمين” أن يكفوا فورا عن ذلك قبل أن يتلقوا صفعة تعيدهم الى رشدهم أو تسبب لهم غيبوبة لن يستفيقوا منها أبدا!”.
وعلى جدارها كتبت شابة تونسية: “الذين يتحدثون عن “ثورة الياسمين” هم كمن يكذبون كذبة ويصدقونها!”.
ولعل هذا بعض من الأسباب التي تفسّر نفور التونسيين من البرامج السياسية التي تقدمها القنوات التلفزيونية والإذاعية، وعزوفهم عن الاستماع الى الذين يعتبرون أنفسهم “عرابي” ثورة الياسمين”.
فما الذي حدث يا ترى لكي ينقلب التونسيون على ثورتهم التي كانوا يتباهون بها، ويقدمونها كنموذج وكمثال لما سمي بـ”الربيع العربي”؟
أول ما تتوجب الإشارة اليه هو انه حال سقوط نظام بن علي، وعوض أن تسعى الى ملء الفراغ الهائل الذي خلفه هذا السقوط على المستوى السياسي بالخصوص، انخرطت التنظيمات والحركات، وجلها كانت في البداية، من اليسار المتطرف، في سلسلة من الاحتجاجات والاعتصامات العنيفة والشعبوية التي زعزغت استقرار البلاد، مبيحة الفوضى والتخريب والاعتداء على الممتلكات الخاصة والعامة ومعتقدة انها أصبحت القوة السياسية الأساسية.
عمدت هذه الحركات وهذه التنظيمات، تحت نشوة الانتصار الى افراغ وزارة الداخلية من أطرها الكبيرة العارفة بالملفات الأمنية وبخفايا الأوضاع في البلاد. كما انها قامت بحلّ حزب التجمع الاشتراكي الدستوري الذي كان الحزب الحاكم في زمن بن علي، والذي يمتلك خبرة واسعة في ادارة شؤون البلاد.
في الآن نفسه، فرضت العفو التشريعي العام الذي أطلق بمقتضاه المئات من المتشددين المتهمين بالتحريض على العنف والإرهاب وبالضلوع في اقتراف عمليات اجرامية. وكان من الطبيعي أن تستغل حركة النهضة بزعامة راشد الغنوشي لصالحها كلّ هذه ألأوضاع. وحال استلامها السلطة عقب انتخابات خريف 2011، شرعت في ادراة البلاد بحسب رؤيتها الخاصة، فاتحة أبواب وزارة الداخلية ووزارة الدفاع لعناصرها التي كانت مطاردة من قبل نظام بن علي، ومبيحة حالة من التسيب سمحت لمئات من العناصر الارهابية الخطيرة، والتي كان الكثير منها في سجون بن علي، او في المنفى، بإدخال السلاح الى البلاد وتخزينه بأعداد وفيرة.
وعندما اكشتفت وسائل الإعلام التونسية والجزائرية والغربية أن أصوليين يتدربون على القتال في جبل “الشعانبي” ، على الحدود مع الجزائر، والذي سيكون في ما بعد مسرحا لعمليات ارهابية عديدة، أعلن علي العريض وزير الداخلية في ما كان يسمى بـ”حكومة الترويكا”أن الامر لا يتعدى ان يكون مجرد جماعات تقوم بتمارين رياضيّة!!!.
أما المساجد التي اصبحت تحت سيطرة المتطرفين والتكفيريين فقد راحت تحرض على العنف والجهاد جهارا ومن دون حسيب ولا رقيب. والعديد من الأئمة دعوا في صلوات الجمعة الى هدر دم البعض من الوجوه السياسية المعارضة للنهضة.
وبإسم “نصرة الاسلام” بحسب عبارة الغنوشي، تعددت الفرق المتشددة التي أباحت لنفسها التدخل في الحياة الشخصية للرجال والنساء، في فرض انماط مغايرة تماما لحياة التونسيين، بل لم يشهدوا مثلها من قبل أبدا.
وفي قصر قرطاج، استقبل الرئيس المؤقت السابق المنصف المرزوقي، حليف النهضة، أئمة وشيوخا معروفين بالتطرف مباركا اياهم ومحتفيا بفتاة منقبة أمام عيون التونسيين المذهولين.
وأكثر من مرة، وفي العاصمة، وفي القيروان، وفي الجنوب على الحدود مع ليبيا، تظاهرت فرق متشددة حاملة العلم الأسود، ومنادية بإقامة دولة الخلافة.
كل هذا كان يحدث وبقية الأحزاب والتنظيمات منشغلة بالانتقام من “الرئيس المغلوع” (يعني بن علي)، ومن أركان نظامه، غاضة الطرف عما كان يجري في الخفاء وفي العلن من اعمال كانت تستهدف استقرار البلاد وامنها واقتصادها ومشروعها الاصلاحي والحداثي الذي بدأه خير الدين باشا التونسي ورسخ الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة البعض من أسسه، ولم يتنكر له بن علي.
وقد عاد الأمل الى التونسيين بعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي جرت أواخر العام الماضي، والتي صعد بموجبها الى السلطة حزب نداء تونس الذي يقوده الباجي قايد السبسي المعروف بوفائه للنظام الجمهوري البورقيبي، والذي وعد بإعادة الهيبة للدولة، وبمصالحة وطنية وبمكافحة الارهاب بطريقة تسرع في انهائه وتقويض مخاطره.
غير أن الأحزاب والتنظيمات اليسارية والشعبوية والنقابية أغرقت البلاد مجددا في اضرابات وفي احتجاجات وضعت البلاد على حافة كارثة اقتصادية فاتحة الأبواب واسعة امام الفوضى والعنف والتخريب.
لذلك يمكن القول إن الضربة الارهابية في سوسة، والضربات العديدة التي سبقتها، لم تستهدف فقط “ثورة الياسمين” التي بشرت بـ”الحرية والكرامة”، وإنما استهدفت ايضا المشروع الاصلاحي والحداثي الذي بفضله تمكنت تونس خلال العقود التي أعقبت استقلالها من تحقيق انجازات هائلة نادرة في بلدان العالم الثالث.
لذلك يمكن القول إن مستقبل تونس مرهون بإعادة الاعتبار الى هذا المشروع لكي لا يجرف الطوفان البلاد والعباد، ويرمي بهم جميعا الى المجهول المرعب!
*كاتب صحفي/”مجلة الخليج”