خمس سنواتٍ مرّت على بدء حراكٍ شعبي عربي كانت باكورته في تونس، ثمّ امتدّ إلى مصر وليبيا وسوريا واليمن والبحرين ودولٍ عربية أخرى، ممّا أطلِق عليه لاحقاً اسم «»، بينما نتائجه حتّى الآن هي مزيدٌ من سوء الأوضاع العربية، ووصولها إلى مخاطر التقسيم والتدويل والحروب الأهلية.
وقد كان من الإجحاف وصف العام 2011 بأنّه عام «الثورات العربية». فالثورة تعني تغييراً جذرياً في الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وليست عملية تغيير أشخاص وحكومات فحسب. الثورة تعني أيضاً توفّر قيادة واضحة ورؤية فكرية – سياسية ناضجة لمرحلة ما بعد إسقاط النظام، الأمر الذي لم يتوفّر حتّى الآن في أيِّ بلدٍ عربي شهد أو يشهد حراكاً شعبياً من أجل التغيير.
أيضاً، تعبير «الثورة العربية» يوحي وكأنّ ما حدث في المنطقة العربية هو ثورةٌ واحدة موحّدة في الأساليب والقيادات والأهداف والظروف، وعلى أرضٍ واحدة وفي كيانٍ واحد، وهذا كلّه غير صحيح. فالمنطقة العربية هي أمَّة واحدة، لكنّها تقوم على 22 دولة وكيان وأنظمة حكم مختلفة.
فوحدة «الشارع العربي»، من الناحيتين السياسية والعملية، هي غير متوفّرة بسبب هذا الواقع الانقسامي السائد لقرنٍ من الزمن تقريباً، وبالتالي فإنّ «المشترك» كان حدوث انتفاضاتٍ شعبية عربية، لكن بقوى مختلفة وبظروف متباينة وبأساليب متناقضة أحياناً. فما حدث من أسلوب تغيير سلمي في تونس ومصر لم يتكرّر في ليبيا أو سوريا..
ولا كانت أيضاً مواقف المؤسسات العسكرية متشابهة أو متجانسة في البلدان التي شهدت هذه الانتفاضات الشعبية، كما أنّ التدخّل الإقليمي والدولي لم يكن حاصلاً في الحالتين التونسية والمصرية، بينما كان هذا التدخّل سافراً في الحالات العربية الأخرى.
وكان واضحاً، ولا يزال، غياب المعيار العربي الواحد لتقييم هذه الانتفاضات الشعبية. فقد كان معيار البعض هو العامل السياسي المحلّي فقط، والذي يرتبط بالمسألة الديمقراطية ومحاربة الفساد والاستبداد، بينما كان المعيار لدى البعض الآخر هو مدى قدرة هذه الانتفاضات الشعبية على البقاء متحرّرة من التدخّل الأجنبي والمشاريع الدولية لمستقبل المنطقة، وعلى تأثير هذه الانتفاضات سلباً أو إيجاباً على نهج مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. ففي مصر مثلاً، انعقدت الآمال الشعبية العربية على أن يكون ما حدث فيها من تغيير داخلي مقدّمة لعودة دور مصر العربي، ولتحرّرها من قيود المعاهدات مع إسرائيل.
إقرأ أيضا: أحياناً… («الربيع العربي» صناعة أوروبية!)
ولعلّ ما يحدث الآن في عموم أرض العرب، هو تعبيرٌ لا عن خطايا حكومات وأنظمة فقط، بل هو مرآةٌ تعكس الفهم الشعبي العربي الخاطئ للدين وللهويّتين العربية والوطنية.
إنّ ما جرى في السودان مع مطلع العام 2011 لا ينفصل عمّا جرى في شمال العراق بعد احتلاله في العام 2003، ولا عن محاولة فصل جنوب اليمن عن شماله، ولا عن تصاعد العنف ضدّ المسيحيين العرب، ولا عن إثارة الغرائز الانقسامية بين المذاهب الإسلامية.
بل إنّ كلّ ذلك يؤكّد جدّية المشروع الإسرائيلي/الأجنبي الساعي لتفتيت ما هو أصلاً مقسّمٌ عربياً، ولإقامة دويلات دينية وإثنية «فيدرالية» ترث «النظام العربي المريض» كما ورثت اتفاقية (سايكس/البريطاني وبيكو/الفرنسي) مطلع القرن الماضي «الدولة العثمانية التركية المريضة».
جسد الأمة العربية يحتاج الآن بشدّة لإعادة الحيوية النابضة في قلبه المصري، في ظلّ أوضاع عربية كانت تسير في العقود الأربعة الماضية من سيئ إلى أسوأ، ومن هيمنة غير مباشرة لأطراف دولية وإقليمية إلى تدخّل مباشر في بلدان الأمّة، بل باحتلال بعضها..
كما حدث أميركياً في العراق، وإسرائيلياً في لبنان وفلسطين.أيضاً، فإنّ البلاد العربية هي أحوج ما تكون الآن إلى جيلٍ عربي جديد، يتّصف ويستند إلى توازن سليم في الفكر والممارسة بين شعارات الديمقراطية والتحرّر الوطني والهويّة العربية، جيل يرفض استخدام العنف المسلّح لتحقيق التغيير السياسي والاجتماعي في أوطانه العربية، جيل شبابي يجمع ولا يفرّق داخل الوطن الواحد، وبين جميع أبناء الأمَّة العربية.
إنّ وجود حكوماتٍ فاسدة واستبدادٍ سياسي وبطالةٍ واسعة وفقرٍ اجتماعي وغيابٍ لأدنى حقوق المواطنة المتساوية وللحرّيات العامة وانعدام فرص العمل أمام الجيل الجديد، كلّها كانت عناوين لانتفاضاتٍ شعبية تُعبّر عن عشرات الملايين من المظلومين والفقراء على امتداد الأرض العربية. لكن ماذا بعد حصول أي انتفاضة..
وعلى أساس أيّ برنامجٍ للتغيير؟ وهل تغيير نظام الحكم سيؤدّي حتماً إلى إصلاح المجتمع؟ فالعلاقة بين المسألتين هي طبعاً جدلية، لكن من المحتّم أنّ إصلاح المجتمع هو السبيل الأفضل إلى إصلاح الدولة ونظام الحكم فيها.
لقد كانت الفاتحة في العام 2011 انتفاضات بإرادة شعوبٍ مقهورة، لكن الخاتمة تتجّه نحو تفتيت الأوطان وتدويلها. إنه الآن «زمنٌ إسرائيلي»، حيث العربي فيه يقتل أخاه العربي… وإسرائيل تتفرّج!! هو «زمنٌ إسرائيليٌّ» حينما يسقط عشرات الألوف من المواطنين العرب الأبرياء ضحيّة صراعاتٍ عربية داخلية، بعضها بأشكال طائفية ومذهبية ممّا يخدم مشروع «الدويلات»…
وهو «زمنٌ إسرائيلي» حينما لا يجوز الحديث عن المشاريع الإسرائيلية والأجنبية من أجل تقسيم الأوطان العربية، بحجّة أنّ هذا الحديث يخدم أنظمة حاكمة!
ثورتا تونس ومصر اتّسمتا قبل خمسة أعوام بالأسلوب السلمي وبالطابع الوطني التوحيدي وبغياب مخاطر التقسيم والتدويل، وبالأمل في تغيير سياسي يصبّ في صالح الوطن والعروبة ونهج المقاومة، لا في صالح الأجانب وإسرائيل ونهج الشرذمة.
أمّا الانتفاضات الشعبية العربية الأخرى، فقد انحرفت عن مصالح أوطانها وأهدافها. وها هي المنطقة الآن ساحة تنافس وصراع مصالح بين قوى إقليمية ودولية، بينما يغيب تماماً أيُّ «مشروع» وطني واحد أو «مشروع» عربي مشترك، وفي ظلِّ حضور «مشاريع» غير العرب!
* مدير مركز الحوار العربي في واشنطن/”البيان”