هيثم شلبي
إذا جاز الحديث عن “خصوصية أفريقية” في عالم السياسة، فستقفز إلى الذهن مباشرة صور أنظمة فاشلة، محكومة بأحزاب “تاريخية”، وبقيادات “أبدية”. صحيح أن دولا عالمثالثية في قارتي آسيا وأمريكا اللاتينية قد تشترك مع أفريقيا بهذا “المرض”، لكنها تبقى مع ذلك سمة أفريقية بامتياز، لكثرتها وطول استمرارها. لقد عانت دول أفريقية عديدة من “لعنة” قيادتها من قبل الحركات التي قادتها للتحرر من الاستعمار، قبل أن تحتكر الحكم لعقود، وكأن الأوطان هي مجرد “أصل تجاري” استطاعت تملكه بعد أن انتزعته من أيدي الاستعمار الأوروبي. وبخصوص قادة هذه الدول، وبعد انتهاء حكم “الآباء المؤسسين” بعد عقود في السلطة، جاء الدور على نوابهم شركاء النضال لتولي القيادة، وفي بعض الحالات، نجح الأبناء في وراثة آبائهم، وتحولت “الجمهوريات” المستقلة إلى أنظمة شمولية لا معنى فيها لأي استشارة انتخابية. وللمفارقة، فهذا الاستبداد المستمر منذ موجات الاستقلال في الستينات، استمر مدعوما من قبل المستعمرين السابقين، أو من قبل زعيمة المنظومة الاشتراكية الاتحاد السوفييتي (ومن بعده روسيا)، وذلك لطغيان هذه “الاشتراكية” في صفوف حركات التحرر التي تحولت -بقدرة قادر- إلى ديكتاتوريات راسخة!
وليس صدفة أن الدول التي تحكمها أنظمة الحزب الواحد، والزعيم الأوحد تشترك في سمات متشابهة -إن لم نقل متطابقة- حتى لو بدا ظاهريا وجود بعض التفاوت. فهي أنظمة فاشلة من ناحية تحسين مستوى المعيشة لمواطنيها؛ عاجزة عن تقديم الخدمات الأساسية كالماء والكهرباء والتعليم والصحة والبنية التحتية؛ لا تعرف معنى للانتخابات التعددية النزيهة؛ تدار مؤسساتها بمستويات “فاجرة” من الفساد؛ يبنى اقتصادها على ريع صادرات المواد الخام التي تمتلكها؛ وتعاني مجتمعاتها من تفشي العنف والجريمة. ولأن الإعلام محكوم بالدعاية الغربية، يتم تركيز الأضواء أكثر على “الأنظمة الاشتراكية” الفاشلة، مع تمتع شبيهتها الحليفة للغرب بشبكة حماية. وحتى الانقلابات العسكرية “التصحيحية”، فهي موضع إدانة إذا طالت الأنظمة الموالية للغرب (مالي، النيجر، بوركينافاسو)، بينما يغضون الطرف عن أخرى مماثلة في حال لم تتهدد مصالحهم (تشاد والغابون وغيرهما). انقلابات أثبتت الخبرة التاريخية أنها لم تنجح في نقل الدكتاتوريات الفاشلة إلى “أنظمة طبيعية”، تتداول فيها السلطة وفق إرادة الناخبين، وتوجه اختياراتها احتياجات المواطنين للعيش حياة كريمة، وتنخفض فيها معدلات الفساد والجريمة والإفلات من العقاب. لكن هل نجحت الانتخابات فيما عجزت عنه الانقلابات؟!
مع وجود استثناءات، تتمثل في دول تعيش انتخابات غير مطعون في نزاهتها ونتائجها من قبل جميع المشاركين فيها، وتقبل نتائجها دون أن يترتب على ذلك عنف في الشوارع، فإن الانتخابات في العديد من الأنظمة الأفريقية لا تنجح عادة في إحداث التغيير المرجو من المواطنين، بسبب فساد الطبقة الحاكمة، التي تقوم بالتزوير بشكل فاضح، دون خشية من أي عواقب وخيمة لهذا السلوك، بسبب حماية القوى الدولية المسيطرة. لكنها على المدى الطويل، تبقى أفضل من بديلتها العنيفة (الانقلابات).
آخر الانتخابات الأفريقية هي ما شهدته جنوب أفريقيا، وقادت إلى فقدان الحزب الحاكم (المؤتمر الوطني) لأغلبيته البرلمانية، بحصوله على قرابة 40% من الأصوات، وصار مطالبا بعقد تحالف مع خصومه الذين يمتلكون الآن الكلمة الفصل فيما يخص اختيار الرئيس، سواء التجديد للحالي سيريل رامافوزا، أو اختيار بديل له من حزب المؤتمر. وللمفارقة، فهذه الدولة الأكثر تصنيعا، والأكبر اقتصادا في قارة أفريقيا، تعاني تماما مثل مثيلاتها المحكومة “بحركات التحرير” التي تحولت إلى أحزاب حاكمة، بل وتعاني أكثر منها من بطالة تتجاوز 33%، وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة يوميا، وعدم توفر خدمات المياه الصالحة للشرب للجميع، ومستويات فضائحية من الفساد السياسي والاقتصادي، والذي يندر أن ينجو من اتهاماته مسؤول سابق أو حالي، في ظل نظام قضائي خلافي. صحيح أنها دولة مصنعة، وأنها الأعلى من حيث الدخل القومي، لكن الصحيح أيضا أن أقلية من السكان تستفيد من هذا التقدم.
صدمة فقدان المؤتمر الوطني للقدرة على التفرد بالحكم في المؤسستين التشريعية والتنفيذية وحكومات الولايات (فقد ولايتين، ويحتاج للتحالف مع المعارضة لحكم ولايتين أخريين؛ من أصل ولايات البلاد التسع) لا تزال تتفاعل (أصبح يمتلك 159 مقعدا من أصل 400، ويحتاج 42 مقعدا لنيل الأغلبية)، ويشهد على ذلك الموقف من التجديد للرئيس الحالي رامافوزا، الذي يعتبر الشخصية الأكثر جماهيرية في الحزب، والذي ترى غالبية قيادات الحزب ضرورة استمراره، بينما يعتبر البعض أن حدوث هذه الهزيمة التاريخية تحت إدارته (فقدان 17.5% من الأصوات، أو 71 مقعدا)، لا بد وأن تدفعه لتحمل المسؤولية والتنحي. لكن بقاء رامافوزا متعذر إذا اختار المؤتمر الوطني التحالف مع الأحزاب التي خرجت من عبائته (رمح الأمة برئاسة زوما، ومناضلون من أجل الحرية الاقتصادية بقيادة جوليوس ماليما) حيث وضع غريمه رمح الأمة (حزب سلفه جاكوب زوما)، الحاصل على قرابة 14.5 % من الأصوات (58 مقعدا)، شرط إزاحة رامافوزا سبيلا وحيدا لمنح حزب المؤتمر الوطني الحاكم الأغلبية التي يحتاجها. أما شروط الشقيق الأصغر (حزب الزعيم الشاب ماليما) فهي أصعب لدرجة تجعل تحالفه مع المؤتمر الوطني متعذرا، كما أن مقاعده ال 39 لن تساعده في تكوين أغلبية مريحة. وهكذا، يجد الحزب الحاكم نفسه بين سندان الاحتفاظ برئيسه والاضطرار للتحالف مع غريمه الدائم “التحالف الديمقراطي” (87 مقعدا)، وهو ما يميل إليه رامافوزا، وجناحه البراغماتي، لدوره المأمول في تحسين الأداء الاقتصادي لبلاده، لاسيما وأن هذا الحليف المحتمل يمثل الأقلية البيضاء القوية اقتصاديا في جنوب أفريقيا. في المقابل، يعارض هذا التحالف التيار التاريخي في الحزب، الذي لا يزال متأثرا بأدبيات “حركة التحرير” والموقف من الأقلية البيضاء.
ويزيد من تعقيد المصير الذي يواجهه حزب المؤتمر الأفريقي الحاكم في افريقيا، بعد أن فقد أغلبيته، أنه لا يحمل توقعات مستقبلية إيجابية تذكر لمستقبل الحزب. فالحزب الذي تقوى بفضل رمزية قائده التاريخي نيلسون مانديلا، وانجازاته في السنوات الأولى من حكم الغالبية السوداء، والتي وصلت بالحزب إلى نسبة 77% من الأصوات في انتخابات 2004، لم تشفع له في وقف تآكل هذه الغالبية منذ ذلك الحين، والتي انتهت كما هو معلوم قبل أيام. صحيح أنه لا يزال يتقدم على باقي الأحزاب بنسبة 40% من مقاعد البرلمان، ولا يزال يحكم خمس ولايات من البلاد منفردا، ويشارك آخرين في حكم اثنتين؛ لكن قدرته على عكس الأوضاع المعيشية المزرية في جنوب أفريقيا هي مصدر شك كبير. إن رهان الحزب على بقاء رئيسه وتحسين الاقتصاد بالتحالف مع حزب “البيض” يحمل في طياته خطر هجرة متزايدة من التيار المعارض لهذا التحالف باتجاه الحزبين المنشقين عن المؤتمر: رمح الأمة ومناضلين من أجل الحرية الاقتصادية؛ بمعنى، أن نجاته للخمس سنوات المقبلة يمكن أن تقوده إلى مزيد من التدهور في الانتخابات المقبلة، بشكل يصعب علاجه بعد ذلك. أما محاولة استقطاب الحزبين اللذان خرجا من تحت عباءته من أجل جمع شتات المؤتمر الوطني، بالتضحية برئيسه رامافوزا، فهو أيضا حل مؤقت سيزيد من تدهور الاقتصاد والحالة المعيشية للسكان، ويجعل المشهد الانتخابي 2029 “سرياليا”!
خلاصة القول، إن زلزال الانتخابات التشريعية في جنوب أفريقيا، والذي أفقد حزب المؤتمر أغلبيته، للأبد! سيسهم في تحويل جنوب أفريقيا إلى دولة “طببيعية” تديرها أحزاب ائتلافية، ببرامج متعاكسة أحيانا، وهو ما يسهم في تنحية “خطاب الأيديولوجيا” لصالح “خطاب المصالح والواقعية”، ويقطع نهائيا مع شعارات التحرر من الاستعمار، وغيرها التي لم تسمن ولم تغن من جوع أي أفريقي. عدوى تتراكم مؤشراتها في دول جوار جنوب أفريقيا كزيمبابوي وناميبيا وغيرهما، التي ما تزال محكومة “بأيديولوجيا اشتراكية تحررية” لم يعد لها مكان في أفريقيا القرن الواحد والعشرين.