الكثير من التونسيين يرفضون التأريخ للثورة التونسية باعتماد تاريخ 14 يناير (كانون الثاني) ٬2011 ويعتبرون في ذلك كتابة ظالمة لتاريخ الثورة الحقيقي.
لذلك فهم يصرون على أن 17 ديسمبر (كانون الأول) ٬2010 هو التاريخ الفعلي لشرارة الثورة الأولى باعتبار أنه لولا ذلك التاريخ٬ الذي أضرم فيه محمد البوعزيزي النار في جسده تعبيًرا عن اليأس والاحتقان في أعلى درجاته المأساوية٬ لما كان رحيل الرئيس الأسبق بن علي يوم 14 يناير.
ويبدو لي أن الجدل حول تاريخ الثورة سيبقى متواصلاً٬ كجزء لا غنى عنه في كتابة قصة الثورة التونسية. مع العلم٬ أن هذا الجدل لا يهم هاتين القراءتين فقط٬ بل يشمل قراءة أخرى تقول إن ما عرف باحتجاجات الحوض المنجمي في منطقة الرديف بتونس سنة 2008 هو الشرارة الأولى للثورة.
على كل٬ فإن هذه القراءات على اختلافها هي مصدر إثراء لقصة الثورة التونسية التي بلغت اليوم خمس سنوات من العمر والتراكم.
طبًعا إلى جانب الجدل حول التأريخ للثورة٬ هناك جدل آخر أكثر قوة وهو المتمثل فيما إذا كان ما حصل في تونس فعلا ثورة.
وكما نلاحظ٬ فإن الجدل الثاني يختلف عن الجدل الأول في كونه يضرب قصة الثورة التونسية في جهة القلب٬ إذ إنه ينسفها ويتعاطى معها من منطلق التكذيب والتشكيك.
لا يعنينا بالمرة الانشغال بالمواقف الجدلية من موضوعي تأريخ الثورة أو مدى صدقيتها٬ فذلك مثله مثل البهارات٬ التي ترافق أحداث العالم كافة في كتابة التاريخ لها٬ إذ الكل يكتب التاريخ منطلًقا من ساعته الزمنية الخاصة ومن موقعه من الأحداث وما تجلب له وفق الرؤية الخلدونية من الغنائم أو الخراب.
فالذي يهمنا اليوم بعد مرور خمس سنوات على تاريخ اضطرار الشاب التونسي محمد البوعزيزي إلى الانتحار حرًقا٬ معلًنا بذلك عن أقسى حالات الانشقاق الاجتماعي والسياسي٬ هو كيف هو حال تونس وما جلبت لها الثورة كمحرك قوي وسريع للتاريخ الاجتماعي وأيًضا كحدث يعيد تشكيل التوازن الاجتماعي وفق ركائز متغيرة.
إقرأ أيضا: الشرطية التي “صفعت” البوعزيزي: ألوم نفسي.. الموت في كل مكان بسببي!
لا شك في أن مقاربة المنجز التونسي خلال السنوات الخمس الأخيرة الماضية تختلف من عين إلى أخرى: فعين السياسة ليست عين الاقتصاد٬ وعين الحريات ليست عين الأمن… وهكذا دواليك.
ولكن لعل كل هذه العيون المذكورة مجتمعة إذا ما التزمت بعدسة الموضوعية في النظر٬ ستتفق على أن أكبر مكسب حصده التونسيون يتمثل في المشاركة السياسية للشعب. فالشعب الّتونسي اليوم٬ قد أصبح طرًفا وفاعلاً اجتماعًيا وسياسًيا. وهو حاضر أحياًنا بشكل مباشر من خلال آليات الاحتجاج المعروفة مثل المظاهرات والمسيرات٬ وحاضر أيًضا من خلال المجتمع المدني٬ الذي عرف خلال السنوات الخمس الأخيرة نقلة نوعية على مستوى الأدوار. وهي نقلة استطاعت أن تلفت انتباه العالم حيثُتوجت تونس من خلال الرباعي الراعي للحوار بجائزة نوبل للسلام.
لقد تحرر المجتمع المدني في تونس رغم عراقة وجوده في المجتمع التونسي. فلم يتحرر فعلًيا وكما يجب إلا بعد الثورة. ولم يستطع أنُيبدع في مهامه إلا خلال السنوات الأخيرة. وهكذا نلاحظ أن المشاركة السياسية الحرة للشعب٬ إنما هي منتجة آليا لمجتمع مدني فعال.
لذلك فمن المهم عدم الاستهانة بمكسب بلوغ الشعب الّتونسي مرحلة المشاركة السياسية بمعناها المعمق والواسع والمفتوح في مدلولاته.
ولكن ما الذي يحز في نفوس التونسيين إذن؟
إن أول نقطة تحز في النفس٬ هي أن تونس على امتداد تاريخها لطالما كانت رائدة في عدة إصلاحات٬ ولكن في الوقت نفسه دائًما يعقب الريادة حالة من الخمول. لذلك٬ فإنه يحز في نفوس التونسيين أنهم يستطيعون أن يكونوا أفضل بكثير مّما هم عليه.
طبعا الموانع كثيرة٬ وفيها ما هو قيمي ثقافي٬ وتكاد تجتمع فيه تونس مع غالبية المجتمعات العربية الإسلامية. غير أن الأسباب الخاصة بتونس٬ تتصل بالأساس بمحدودية المشهد السياسي التونسي وضعف مكوناته من الأحزاب في صياغة برامج قادرة على النهوض بتونس. فحتى حزب «نداء تونس»٬ الذي راهن عليه التونسيون كي يحقق التوازن السياسي مع حركة «النهضة»٬ والذي يثقل كاهل التونسيين بصراعاته وانقساماته وأزماته المتتالية عوض أن يقدم الحلول للتونسيين٬ أصبح في قلب مشكلات التونسيين٬ أي أنه أسهم في تسويق صورة تونس غير المستقرة٬ دون أن تفوتنا تداعيات تلك الصورة على الاقتصاد والدينار المنهار وتدهور المقدرة الشرائية وتراجع حركة الاستثمار الوطنية والأجنبية.
صحيح أن ظاهرة الإرهاب ضربت تونس وأضرت بسياحتها ضرًرا كبيًرا ومكلًفا٬ ولكن ماُيخفف من وطأة هذه الظاهرة أنها بلاء عّم غالبية البلدان والشعوب٬ في حين أن ما يحّز في نفوس التونسيين أن المنجز خلال السنوات الخمس الماضية أقل بكثير من الممكن تحقيقه.
إننا نتحدث عن الممكن وليس الحلم المنشود.
* كاتبة وشاعرة تونسية/”الشرق الاوسط”