لا يزال العراك سيد الموقف بين عدد كبير من الفرقاء ذوي الانتماءات السياسية المختلفة في المسرح السياسي الجزائري حول ما يسمى بمبادرة جماعة (19 ناقص 3) وها هي 25 جمعية تابعة لما يسمى بالمجتمع المدني تعلن أنها ستعقد ندوة للتباحث في الوضع الجزائري، بعيدا عن الصراع التقليدي بين المعارضة والسلطة.
وتؤكد الأخبار التي سربتها هذه الجمعيات ذات الطابع المدني (التابعة غالبا لأجهزة السلطة) إلى وسائل الإعلام أنها عانت طويلا من التهميش ومن عدم الاستماع إلى صوتها. وفي الوقت نفسه وقعت هذه الجمعيات والنقابات في نفس المأزق الذي وقعت فيه أحزاب الموالاة وبعض الشخصيات السياسية التي تمسك بالعصا من الوسط، حيث أوضحت أنها تكن الاحترام لمؤسسات الدولة كما أنها ناشدت الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة أن يتدخل “لوضع حد للتجاذبات والاحتقان السياسي والتداخل في الصلاحيات والعمل على تقوية الجبهة الداخلية مع تشكيل حكومة وحدة وطنية لمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية والعمل على إرساء دولة القانون”.
لاشك أنَ مثل هذا الخطاب العفوي يسقط دون وعي من أصحابه في حبال التفكير الرغبي ويتناسى أمرا مهما ومفصليا، وهو أن ما يدعوه ممثلو هذه الجمعيات والروابط والتنظيمات والنقابات المدنية بمؤسسات الدولة في الواقع ليس سوى أجهزة جامدة ومجمدة تنخرها البيروقراطية ولا فاعلية إيجابية لها، وأكثر من ذلك فهي قد أصبحت ملكا خاصا لجماعات متناحرة تفرقها المصالح والزعامات والولاءات ولا علاقة لها بهموم ومشاغل المواطنين والمواطنات. ثم إن استنجاد هذه الروابط والجمعيات والنقابات برئيس الجمهورية ليرفع وحده عصا موسى ويشق بها بحر الظلمات من دون الشعب الجزائري وشرائحه الواعية والمنظمة في أطر الأحزاب أو في مؤسسات المجتمع المدني المستقل، له دلالات كثيرة وفي مقدمتها إعادة إنتاج الثقافة الأبوية التي يتميز بها المجتمع البطريركي البدائي المتخلف، وإنتاج وتصفيح وهم الجري وراء صنع الزعيم القادر على كل شيء.
اقرأ المزيد: الشلل السياسي الجزائري ولعبة مبادرات أحزاب السلطة
تدخل هذه الذهنية في نطاق ما سماه عالم الاجتماع الفرنسي غوستاف لوبون، في كتابه “سيكولوجية الجماهير”، بثقافة انفعال الجماهير وتعلقها بالأوهام والصور والمثال الأعلى، والكلمات المثيرة للعواطف، والشعارات المتضادة مع ثقافة العقل النقدي والتعامل الواقعي مع السياسات.
في هذا سياق احتدمت المعارك مع المجموعة المعروفة بمجموعة (19 ناقص 3)، حيث تدخَل ثلاثة وزراء سابقين وهم وزير التعليم العالي رشيد حراوبية ووزير النقل عمار تو ووزير السياحة وسفير الجزائر لدى مصر قارة محمد الصغير، وهم أعضاء في قيادة التيار التقويمي المنشق عن المكتب السياسي واللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني. أصدر الثلاثة بيانا اتهموا فيه الجماعة المذكورة أعلاه بالتشكيك في صحة الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، وبالمساس بمؤسسات الدولة، وبالتخطيط للانتقال بالبلاد إلى مرحلة انتقالية وتنحية الرئيس من منصبه. إلى جانب هذا فإن هؤلاء الوزراء السابقين كالوا تهما كثيرة لمجموعة (19 ناقص 3) منها أن أعضاءها هم من المعارضين للعهدة الرابعة التي أوصلت الرئيس بوتفليقة مجددا إلى الرئاسة. والحال فإن كلا من رشيد حراوبية وعمار تو وقارة محمد الصغير وصفوا مبادرة المجموعة المذكورة في بيانهم بأنها جريمة مبيتة.
وهكذا يبدو واضحا أن ثقافة التخلف التي تحوم حول الفرد وحول فكرة الزعيم المنقذ لا تزال مهيمنة على الشخصية القاعدية العامة في المجتمع الجزائري. كما أن العشرية السوداء التي مزقت المجتمع الجزائري لم تطو صفحاتها، بل أصبحت تفرز الآن تداعياتها المرضية على المستوى النفسي والاجتماعي والأخلاقي حيث أن تأثيراتها لا تزال تفعل فعلها في المجتمع الجزائري برمته، وفي المشهد السياسي على نحو لا مثيل له. ففي كل يوم تظهر أمامنا مسلسلات عجيبة تبدو مختلفة ظاهريا ولكنها في العمق تعبر عن الفشل في تحقيق التطور والتحديث، وهي كلها تؤكد أن الجزائر قد أصبحت فعلا “رجل شمال أفريقيا المريض” . مرة يندلع الخلاف حول تعديل الدستور بين أطياف المعارضة من جهة، وبين مؤسستي الرئاسة والحكومة وأحزاب الموالاة من جهة أخرى، وحينا حول غياب الرئيس في المشهد السياسي بسبب مرضه، وحينا آخر حول اختلاس المسؤولين الكبار للأموال، وتارة حول تدهور أسعار النفط ووقف الدولة دعم المواد الأساسية، ورفع أسعار الغاز والماء والكهرباء، وطورا آخر حول موضة تفريخ كل من هب ودب لمبادرة تخصه ويعتبرها ستنقذ البلاد من الضلال.
*كاتب جزائري/”العرب”