كيف نفهم أبعاد وأهداف التطاحن حول ما يدعى بالمبادرات التي تتسابق إليها أحزاب الموالاة بحجة مساندة الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، وخاصة بين حزب جبهة التحرير الوطني الذي يدير شؤونه عمار سعداني وحزب التجمع الوطني الديمقراطي الذي يسيره أحمد أويحيى؟ وما علاقة هذه المبادرات بالأزمات الحقيقية التي تعصف بالجزائر وتشكل عقبة أمام أي تنمية تخرج البلاد من جمودها؟ ولماذا تستثنى بعض المبادرات التي يتقدم بها هذا الحزب المعارض أو تلك الشخصية الوطنية من أجل بلورة برنامج وطني قادر على خلق آليات الانفراج السياسي الذي يمكن أن يفضي إلى الشروع في إيجاد الحلول للمشكلات المحورية وفي صدارتها مشكلة الفراغ السياسي الناتج عن مرض الرئيس المقعد؟
من الواضح أن الأداء السياسي المحتشم في المشهد الجزائري حوصر في زاوية مغلقة حيث أنه يحدث ببطء وبشكل أعرج بين رموز النظام وأحزابه فقط، وهو يصب في نهاية المطاف في مجرى القول القائل بأن الشاعر العربي لا يكتب إلا قصيدتين؛ واحدة في مدح السلطان وأخرى في طلب عفوه. لا أحد يجادل في أن الحياة السياسية الجزائرية تفتقر إلى الديناميكية، وجراء هذا الانسداد تُجمعُ الأحزاب والشخصيات السياسية الجزائرية المعارضة، ومعها الرأي العام الشعبي، على أن الأفق السياسي في الجزائر يعاني منذ سنوات من الشلل على جميع المستويات في ظل تعددية حزبية شكلية مقيدة بالقوانين التي تمنع التظاهر التلقائي أو المخطط له، ولا مبالاة المواطنين والمواطنات بشكل لم تعرفه البلاد منذ الاستقلال.
في ظل هذا المناخ الراكد، الذي يفتقد إلى مرجعية سياسية فاعلة جراء مرض رئيس الدولة واختفائه عن المشهد السياسي، لا تشهد الجزائر أي حراك جدي رغم أن الظروف مواتية، خاصة وأن أغلب المشكلات الكبرى لا تزال متراكمة ولم تجد حلا سواء تعلق الأمر بأزمة السكن المتفاقمة، أو بتدهور الدخل الفردي وضعف القدرة الشرائية، وارتفاع أسعار المواد الأساسية، أو بفوضى تسيير مؤسسات الدولة وامتداد شبح البيروقراطية إلى كل نواحي الحياة اليومية، أو بالبطالة التي تخيم على ملايين الشباب والشابات، فضلا عن تدهور المنظومة التعليمية بشكل مخيف ينذر بمستقبل مظلم.
ما يسمى بالتغييرات التي مست مؤخرا بعض الشخصيات في جهازي الأمن والجيش لا يمثل نقلة نوعية، كما أنه لم يعد على المواطنين بأي نفع ملموس يعدل أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، وبالعكس فإن هذه التغييرات ليست إلا عملية استعراضية يراد منها تصفية الصراع الخفي على مواقع صنع القرارات بين أجنحة السلطة، وهو في الغالب صراع ذو طابع شللي لا علاقة له بالقضايا الحساسة وفي صدارتها بناء أسس مشروع الدولة الديمقراطية التي ينعم في ظلها المواطنون بالرفاه الاجتماعي وبالحريات الإعلامية والفردية وبالازدهار الثقافي والنهضة العلمية.
للمزيد:نظام بوتفليقة يضحك على الأحزاب والشعب
ومن هنا فإن أفق صنع البدائل الإيجابية، التي بموجبها يتم نفخ روح جديدة على مستوى الوضع السياسي والاجتماعي، معتم ولا يوجد بصيص أمل للخروج من نفق الواقع المزري القائم. في هذه الأيام خرج عمار سعداني الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني بمبادرته التي يتلخص فحواها في الدعوة إلى تشكيل جبهة لمساندة رئيس الجمهورية، ودعا جميع أحزاب الموالاة وأطياف المعارضة إلى الانضواء تحت سقفها، وبالمقابل أعلن الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني أحمد أويحى عن رفضه العمل بها وبرر ذلك بأنه يملك بدوره مبادرته موضحا أنها قادرة على دعم عبدالعزيز بوتفليقة في إصلاحاته التي لم يحدد ملامحها والمنهج الذي يمكن تنفيذها بموجبه.
في الوقت الذي يدعو فيه حزب جبهة التحرير الوطني إلى الالتفاف حول مبادرته، نجده يعاني من شروخ حقيقية في داخله الأمر الذي يهدد وحدته التنظيمية، ويقدم صورته للرأي العام على أنه حزب الصراعات الداخلية الفضفاضة بين ما يسمى بتيار التقويمية وبين التيار التقليدي الذي كتف أيدي جبهة التحرير الوطني وحوّلها إلى واجهة للنظام وأفقدها الاستقلالية والروح النقدية، وفي الحقيقة فإن حزب جبهة التحرير الوطني بقي أسيرا للجمود حيث أنه لم يتطور عقائديا أو فكريا كما صارت علاقته بالجزائر الشعبية العميقة هلامية وبراغماتية وانتهازية، بل ظل منذ الاستقلال إلى يومنا هذا مجرد ديكور إداري وسياسي للنظام الحاكم، ولم يبلور أي مشروع حداثي يعطي نتائج ملموسة على مستوى البنيات السياسية والاجتماعية والثقافية والتعليمية في الحياة الجزائرية.
وبدلا من إصلاح هذا الحزب وتطويره فقد أصبح يحصر مهامه في تلميع السلطة التي هو جزء عضوي فيها، ويبرر فشلها في إنجاز التنمية الحديثة للمجتمع بطرق شعبوية غير منطقية. وفي الوقت الذي يرافع فيه حزب التجمع الوطني الديمقراطي عن مبادرته السلطوية التي تنافس مبادرة عمار سعداني يقدم عبدالعزيز زياري الوزير ورئيس المجلس الشعبي سابقا وهو أحد أبناء النظام صورة مخالفة، حيث أكد “إن مرحلة بوتفليقة وصلت إلى نهايتها”، ودعا بشكل غير مباشر إلى إجراء انتخابات رئاسية لإنقاذ الوضع، ووجه نقدا لما يدعى بإصلاحات رئيس الدولة التي تدعمها مبادرة سعداني ومبادرة أويحي، وأخرى تطفو هنا وهناك، وينادي قادة أحزاب الموالاة إلى دعمها مبرزا “إذا اقتصر الإصلاح على المخابرات دون بقية المؤسسات، فهذا يقصد به شيء آخر غير الإصلاح”.
وهناك من يتساءل هل يمكن اعتبار ضخ مبلغ 30 مليار دولار لشراء السلم الاجتماعي عملا إصلاحيا، أم هو مجرد وعود براقة يقصد بها تيسير الأزمة التي تعصف بالثقة بين المواطنين وبين النظام وتحول شعار خطاب “الإصلاحات” إلى آلية لتجميد أي حوار حقيقي حول الأفق المسدود الذي يلقي بظلامه على مستقبل الجزائر؟
*كاتب جزائري/”العرب”