بقلم: هيثم شلبي
مرة أخرى، وأمام أي مأزق صعب، تجد قيادة النظام العسكري الجزائري نفسها فيها، تخرج من الدرج، ملفا جديدا وتكلف أبواقها الإعلامية “باصطناع” ضجة حوله، وهي ملفات غالبا ما تلبسها -زورا وبهتانا- حلّة تاريخية وطنية، تروج فيها لرواياتها، وتفرض حالة إجماع وطني “إجباري” حولها.
في هذا السياق، يمكن فهم الضجة المحيطة بقانون “تجريم الاستعمار” الذي ينتظر أن يقره البرلمان الجزائري بغرفتيه، واعتباره “نصرا مؤزرا” ينسب لجزائر شنقريحة/ تبون، اللذان استطاعا بث الحياة فيه، بعد عجز الحكومات المتعاقبة منذ استقلال الجزائر عن إقراره. هنا لا بد من طرح بضعة أسئلة أساسية: لماذا الآن؟ وما هي الأهداف الحقيقية -منطقيا- للقانون؟ وما هي الآثار المتوقعة للقانون على العلاقة الجزائرية الفرنسية من جهة، وعلى واقع الجزائريين من جهة أخرى؟
كما أسلفنا، فالنظام الجزائري بحاجة للترويج لانتصار وهمي جديد في مواجهة هزيمته الاستراتيجية أمام خصمه الأزلي: المغرب، وليس في نيته أو حساباته أدنى توجه لمساءلة -ناهيك عن معاقبة- فرنسا، من قريب أو بعيد!! هزيمة متعددة الأبعاد بدأت بانتزاع المغرب اعترافا دوليا من الهيئة الحاكمة في الأمم المتحدة بسيادة المغرب على صحرائه عبر مخطط الحكم الذاتي؛ مرورا بإحباط جهود النظام لمعاندة ملكية المغرب لأجزاء من تراثه (القفطان)، وهو امتداد لباقي هزائمها الدبلوماسية إقليميا وقاريا ودوليا؛ وانتهاء بانهيار سردية نظام الجنرالات المتهافتة حول عدم جاهزية، ولا أهلية، المغرب لاحتضان كأس أمم أفريقيا لكرة القدم، بسبب عدم جاهزية مرافقه الرياضية، وتهالك بنيته التحتية، واختلال الأمن الناجم عن وجود ملايين “الجائعين” المغاربة في الشوارع احتجاجا على حالة الفقر التي يعيشونها!! ادعاءات تكلف المشجعون الجزائريون قبل غيرهم من الأفارقة، بنفيها جملة وتفصيلا، وتكفلت صور وفيديوهات كل من حضر البطولة أو قام بتغطيتها إعلاميا بتكذيب رواية الإعلام الدعائي الجزائري، بل ونسفها، والأهم، أصبحت المقارنات التي يعقدها المواطنون الجزائريون بين واقعهم الحقيقي وواقع أشقائهم المغاربة “قنبلة عنقودية” تنفجر أجزاؤها تباعا في أركان النظام الجزائري المتهالك، مذكرين بأن الجزائر لا المغرب، هي من يملك الثروات النفطية والغازية، وهو ما يقوي الانطباع بأن تجدد الحراك الشعبي هو “على الأبواب”!!
لكن، والحالة هذه، لماذا تم إخراج هذا الملف من أدراج النسيان؟ ولأية غاية؟ يجمع كل من تصدى للبحث في بنود هذا القانون على اعتباره نصا “إنشائيا” لا يمتلك أرضية قانونية صلبة، عكس ما يروج له إعلام النظام الكاذب، لأسباب متعددة ليس هنا مجال الخوض فيها، مما يحوله من نص قانوني بتبعات واقعية إيجابية على حياة الجزائريين، إلى نص سياسي تاريخي هدفه الوحيد ربما هو تحصين الرواية الرسمية للتاريخ الجزائري، القريب منه والبعيد، بعد أن توالت المحاكمات الخاصة بمفكرين وكتاب ومؤرخين (بوعلام صنصال ومحمد الأمين بلغيث وسعد بوعقبة كأمثلة) قدموا آراء وسرديات مختلفة عن السردية التي يروجها النظام الجزائري منذ الاستقلال. وعليه، كان لزاما على الدولة أن تلبس روايتها التاريخية “عباءة” قانونية تعفي القضاء الجزائري من الاتكاء على الحجة المضحكة القائلة بأن تلك الآراء المختلفة تضرب الوحدة الوطنية. إن إقرار القانون، سيكرس رواية النظام للتفجيرات النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية، والتي استمرت لمدة خمس سنوات بعد الاستقلال “المفترض” عن فرنسا، كما يحصن رقم شهداء الجزائر الذي يتغنى به الرئيس تبون (5 ملايين و630 ألف شهيد) من أي تشكيك. تحصين يطال جبهة التحرير الوطني وكامل سرديتها لتاريخ ثورة التحرير، بل ويمنع الجدل حول وطنية أو عمالة عبد القادر الجزائري للفرنسيين!! باختصار، فإذا كانت الأجهزة الأمنية تتكفل بملاحقة أي تعبير عن الرأي يهم الواقع المعيشي للجزائريين حاليا، على أي من مواقع التواصل الاجتماعي؛ وتكفلت السلطة التنفيذية بتفريغ السلطة التشريعية وانتخاباتها من أي معنى او وظيفة؛ فإن القانون الحالي سيقفل الباب تماما أمام أي نقاش أو تساؤل يخص الرواية الرسمية للنظام الجزائري تجاه تاريخ البلاد والعباد.
أمام هذه الصورة، يطرح سؤال قد يبدو بديهيا، وإن كان على العكس من ذلك: هل يملك النظام العسكري في الجزائر الرغبة او القدرة على فتح ملفات الحقبة الاستعمارية الفرنسية للجزائر منذ 1830 وحتى 1962، وذلك في سياق أي نزاع قضائي مع فرنسا يهدف لتفعيل أو تنزيل القانون الجديد على أرض الواقع؟! إذ أن قدرة النظام على فرض روايتها لهذه الحقبة بالقوة على المواطنين الجزائريين، من البديهي أنها لا تنطبق على فرنسا، الدولة والمؤسسات والأشخاص! ولنأخذ على سبيل المثال لا الحصر ما يتغنى به النظام الدعائي الجزائري من كون القانون سيفتح الباب أمام إجبار فرنسا على دفع تعويضات لضحايا التفجيرات النووية في الجنوب الجزائري، ونرى ما إذا كان هناك أي سند واقعي يدعم هذه الدعاية. إن أصغر محام فرنسي “تحت التدريب” سيمكنه الاحتجاج بكون التفجيرات كانت من ضمن البروتوكولات السرية لمعاهدة إيفيان، وبالتالي بعلم وموافقة السلطات الجزائرية آنذاك، وهو زعم يؤيده استمرار هذه التفجيرات إلى غاية فبراير 1966، بعلم وموافقة السلطات الجزائرية التي كانت تحكم بلدا يفترض أنه مستقل وفق الأعراف الدولية منذ يوليو 1962؛ بكلام آخر، هي تفجيرات تمت بناء على اتفاق بلدين مستقلين وبشكل سيادي. واقع لا يمكن للنظام الجزائري إلا أن يقبله كما هو ويتحمل تبعات حصول التفجيرات بموافقته، أو أنه سيشكك في سلطة وإرادة ووطنية “آباء الاستقلال” بالقول أنهم وافقوا على هذه التفجيرات “تحت الضغط والإكراه” وأنهم لم يكونوا قادرين على منعها خلال السنوات الخمس الموالية لاستقلالهم، وهما لعمري خيارين أحلاهما مر. صحيح أن “قانون موران” الذي يحكم قضية التعويضات فرنسيا لم ينجح سوى في تعويض مواطنين جزائريين اثنين (نعم، 2 مواطنين)، لكن يجب أن يعلم الجزائريون أن القانون الجديد لن يغير هذه الصورة القاتمة، ولن يجلب تعويضات لأي أحد.
أما القول بأن القانون سيشرع أبواب القضاء الجزائري لمحاكمة أشخاص فرنسيين وكيانات (مؤسسات أو شركات)، وبالتالي اقتطاع ما يحكم به القضاء من تعويضات من المصالح الفرنسية في الجزائر، كما سيشرع عملية ملاحقتهم دوليا، هو من باب “الدجل والتدليس” في أفضل الأحوال. فوجود مثل هؤلاء الأشخاص الذين مارسوا انتهاكات حقوقية في شبابهم قبل 70 عاما (في سنوات الخمسينات كحد أقصى) يعني أن الأحياء منهم سيكونون في سن المئة أو ما دونها بقليل، ولن تمر عملية محاكمتهم بطريقة سلسلة في الداخل الفرنسي، كما أن الدولة الفرنسية تمتلك من الوثائق والحجج ما يمكنها من هدم كامل الرواية التاريخية للشهداء الذين يزيد عددهم عن 5.6 مليونا!! إن الصدمة التي ستترتب على فتح هذه الملفات والوثائق، وإتاحتها للعموم، بما في ذلك وثائق ملكية المغرب لصحرائه الشرقية، تجعل من سابع المستحيلات على أي نظام جزائري أن يفكر للحظة في تفعيل هذا القانون الذي يجرم الاستعمار، مما يحكم عليه سلفا بأنه “مخصص للاستهلاك المحلي الدعائي”.
ختاما، فإن نظاما فاقدا للمشروعية كالنظام العسكري في الجزائر، رأينا كيف أنه جثا على ركبتيه مقابل مواطن نصف فرنسي (بوعلام صنصال)، ولم يجرؤ على تنفيذ أحكام قضائية نهائية بالسجن ضده، يستحيل تصور أنه (أي النظام) سيتجرأ على محاكمة فرنسا ومواطنيها ومؤسساتها عن جرائمها خلال الحقبة الاستعمارية، مما يؤكد بأن كل هذا اللغط المصاحب للقانون لا يعدو كونه “عنتريات” فارغة، من طينة تلك التي اعتاد عليها نظام العسكر، ولا يملك بديلا عنها!
مشاهد 24 موقع مغربي إخباري شامل يهتم بأخبار المغرب الكبير