قد لا يكون خبر إزاحة الجنرال محفوظ مدير العلاقات الخارجية والتعاون في جهاز المخابرات الجزائرية قد حظي بانتباه الكثيرين، أولا لأنه جاء بعد فترة قصيرة من زلزال إقالة الفريق توفيق رئيس الجهاز نفسه، وثانيا أنه جاء في سياق إعفاء ثلاثة رؤوس كبيرة أهمها مدير القضاء العسكري (الجنرال قندوز) والنائب العام العسكري (الجنرال ضاوي)، وثالثها أن لقبه “الجنرال بوليساريو” قد حرف الانتباه عن مسؤولياته الأخرى التي لا تقل أهمية، ونقصد بها مسؤوليته عن أمن البعثات الجزائرية في الخارج، والأهم، وهنا مسؤوليته عن مراقبة سفر منتسبي الجيش والأجهزة الأمنية خارج الجزائر، وذلك عبر مختلف نقاط الحدود البرية والبحرية والجوية.
للمزيد: عاجل..إقالة أربعة جنرالات بالجزائر بينهم الجنرال “بوليساريو”
هذه المسؤولية الأخيرة، ربما تفسر جانبا من الجدل وحرب الإشاعات الدائرة يوميا في الجزائر، حول هروب بعض كبار الجنرالات واستعادتهم، والمسؤولية المفترضة لضباط هذا الجهاز (العلاقات الخارجية بالمخابرات) عن هروبهم. فلم تكد الأخبار تتوالى متضاربة حول مغادرة الفريق توفيق الجزائر بحجة الحج إلى بلد ثالث، رجحت مصادر أن يكون فرنسا، حتى تم ربط الأمر بتواطؤ مفترض للجنرال محفوظ ورجاله المسؤولين في نقاط الحدود المختلفة، وهو ما أعاد للأذهان القصة المفترضة لهروب لواء قوي آخر هو مهنا جبار، نائب توفيق، ومدير مديرية الأمن المركزي للجيش سابقا إلى البرتغال –كما تقول الروايات- قبل أن تتم إعادته قسرا إلى الجزائر والتحفظ عليه دون معرفة مصيره.
ويبدو أن غموض المشهد في الجزائر، وكسر حاجز المحرمات عبر عزل الفريق توفيق، لم يبق حصانة لأحد من “جنرالات فرنسا” كما يلقبونهم في الجزائر، كما أزال الحدود أمام حلم الجزائريين بالتخلص من جميع الجنرالات الذين أداروا بوحشية، عشرية الإرهاب الوحشية، والتي كان الجنرال بن حديد آخر الشاهدين من أهل البيت على المساهمة النشطة لجهاز المخابرات في صناعة جماعاتها الإرهابية، محملا هذا الجهاز وجنرالاته المسؤولية الصريحة عن دماء مئات آلاف الجزائريين الذين استشهدوا فيها. وهكذا، أصبح خبر إلقاء القبض على لواء أو عميد هو أمر “ممكن” في بلد لم يكن مثل هذا الأمر فيه قابلا للتخيل قبل بضعة شهور لا سنوات، وما قصة الجنرال حسّان إلا مجرد نموذج على سقوط هذا الطابو.
إقرأ أيضا: الجزائر..ماذا بعد إقالة الجنرال توفيق؟
آخر الأخبار الواردة من الجزائر العاصمة، تتحدث عن دحرجة رأس كبيرة أخرى من العيار الثقيل، ويتعلق الأمر باللواء محمد التواتي، المستشار الأمني السابق للرئيس بوتفليقة، و “عراب” جنرالات فرنسا الملقب لدهائه ودوره المحوري ب “المخ”، حيث تقول الأخبار أو الشائعات، أنه قد تم سحب جواز سفره الدبلوماسي ومنعه من السفر، بل وهناك من تحدث عن إلقاء القبض عليه. بل وتذهب شائعات أخرى إلى أن التحفظ قد طال رؤوسا لا تقل أهمية من قبيل رضا مالك و علي هارون وغيرهما من الأسماء التي ارتبطت بالانقلاب على العملية الديمقراطية أواخر عهد الراحل الشاذلي بن جديد. هذه الأخبار إن صحت، ربما تضيّق الدائرة لاحقا حول الأب الروحي للمجموعة برمتها، الرأس الكبير اللواء خالد نزار، وهو ما إن صدق، فسيعد زلزالا أكبر وأشد من زلزال إقالة الفريق توفيق، وسيعطي مصداقية كبيرة للأحاديث التي تعتبر “حالمة” في نظر الكثيرين حتى هذه اللحظة، والقائلة بأن ما يجري في الجزائر اليوم هو حملة تطهير منظمة تقوم بها “ضباط وطنيون” في قيادة الجيش لمختلف مفاصل الدول الجزائرية، بغية تطهيرها من هيمنة جهاز المخابرات الرهيب على مختلف جوانب الحياة في الجزائر، وتطهير الجيش من بقايا “جنرالات فرنسا” بواسطة جيل وطني شاب، قبل الانتقال إلى محيط الرئيس بوتفليقة بقيادة شقيقه الأصغر السعيد، الذي ينظر إليه على أنه الراعي “الرسمي” لإفساد الحياة السياسية والاقتصادية الجزائرية، عبر تقليم أظافره الأمنية والاقتصادية (رجال الأعمال وعلى رأسهم أسعد ربراب، علي التواتي، علي حداد، وغيرهم).
ومهما يكن من شأن هذه الإشاعات، فالوضع في الجزائر يعيش أحرج لحظاته ربما منذ الاستقلال، ومعركة كسر العظم أو حرب المواقع، كيفما نظرنا إليها، من شأن نتائجها أن ترسم مستقبل الجزائر للسنوات والعقود المقبلة. وفي سياقها، يتوقع كثير من المراقبين أن يتم اللجوء إلى الورقة الطائفية بعد أن فشلت محاولات ممثلي “الدولة العميقة” كما يدعوها الكثير من الناشطين، في تحقيق مرادها خلال “بروفة” غرداية الصيف الماضي، وهم يحضرون العدة لإعادة التجربة بشكل أشرس وأوسع في منطقة القبايل. ويضاف إلى الورقة الطائفية ورقة العبث بالأمن، واستغلال أن مراكز القوى داخل جهاز الشرطة، لا تزال بعيدة حتى الآن عن حملة الإطاحة بالرؤوس الكبيرة فيه، مع وجود رجل قوي على رأسه هو اللواء عبد الغني هامل، هذا ناهيك عن تزايد الدعوات، التي للمفارقة تنخرط فيها مختلف قوى المعارضة من أجل تحريض المواطنين على النزول للشارع، في محاكاة لما يسمى “الربيع العربي”، مستغلين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المحتقنة، جراء الأزمة الاقتصادية المتفاقمة بتأثير من تدهور أسعار النفط. حراك إن تم، فسيدخل الجزائر نفق الفوضى والمواجهات بين المواطنين والشرطة، ويضطر الجيش للتدخل من أجل ضبط الأوضاع، بعد أن تكون قد اختلطت أوراق الجميع، ويعود الحديث عن تسويات داخلية وخارجية بين مختلف القوى الفاعلة في الساحة الجزائرية والدولية.
للمزيد: أهم الحقائق وسط ركام التكهنات المتضاربة حول الصراع الدائر في الجزائر!!
الأكيد، أن سيناريو الفوضى هو آخر سيناريو يتمناه كل جزائري وعربي ومسلم، لما له من آثار محلية وإقليمية خطيرة. لكن الأكيد أيضا، أن استمرار الأوضاع بالطريقة التي استمرت بها منذ بداية التسعينات، بل منذ الاستقلال، وتحديدا أكثر منذ الولاية الثالثة للرئيس بوتفليقة، هو أمر لم يعد ممكنا تصوره، دون أن يملك أحد اليقين حول المصير الذي ستؤول إليه الأمور في بلد المليون شهيد.