1 ـ مدخل
ليس من اهتمامات هذه المداخلة رصد حركة الصليبيين إلى المشرق أو إلى المغرب الإسلاميين، وضبط إيقاع ردود فعل المسلمين تجاهها، وإنما الغرض منها، على وجه التحديد، مقاربة مناخ التضامن والتكافل بين المسلمين في مشرقهم وفي مغربهم، على غير ما صعيد، وذلك محصلة لاستشعارهم مدى خطورة »الحرب الصليبية« التي استهدفت الإسلام، ديناً ودنيا، تارة بذريعة استعادة ما قبل السيد المسيح في فلسطين، وطوراً بذريعة ما سمي بـ»حرب الاسترداد« التي جنَّد لها الغرب الأوربي ما تيسر له من قوة، مستفيداً من حالة التهافت والتشظِّي التي كان يعاني منها المسلمون في المشرق وفي المغرب على حدٍّ سواء.
ومراعاة للمساحة المخصَّصة لدراستنا، سوف نحصر بحثنا في انعكاسات المناخ آنف الذكر على المكانة الاجتماعية للمغاربة المرتحلين إلى دمشق، حاضرة الشام، ومركز الممانعة والتصدي للفرنج في المشرق العربي ـ الإسلامي، والقطب الجاذب للحركة العلمية في المشرق إلى جانب القاهرة، خلال القرنين السادس والسابع الهجريين/ الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، بعد الأفول التدريجي لنجم بغداد، منذ القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي.
2 ـ دوافع قدوم المغاربة إلى دمشق
بدأ التَّرحال المغربي إلى دمشق منذ الفترة المبكِّرة للدولة الإسلامية (الأموية والعباسية)، ثم تطوَّر بشكل لافت وفاعل في عهد الخلافة الفاطمية. فقد أنشأ الفاطميون، كما هو معروف، دولتهم في المغرب بدعم سياسي وعسكري من قبيلة كتامة، ورافق جند من كتامة جوهر الصقلي، قائد الخليفة المعز الفاطمي، إلى مصر وساعدوه في بسط سلطانه عليها؛ كما دخلوا معه دمشق، ليتبلور الحضور المغربي بالمدينة في أيام نور الدين زنكي والسلطان صلاح الدين.
ولا جدال في أن الدَّافع الديني، وفي طليعته الحج إلى مكَّة المكرمة والمدينة المنوَّرة، شكل المحرِّك الأساسي لانتقال المغاربة إلى دمشق، ولو أن ثمة مدناً إسلامية أخرى كانت أقرب إلى طريق الحج من دمشق (القاهرة والإسكندرية وقوص)، وبعيدة عن الأخطار التي شكلها الفرنج والمغول، وخَاصَّة بعد أن استولى الأخيرون على بغداد، عام 656 هـ/ 1258 م وأسقطوا الخلافة العباسية فيها، واندفعوا، من ثمّ، باتجاه بلاد الشام، دون أن ننسى إسهامات المرتحلين المغاربة إلى الشام في حركة الجهاد الإسلامي ضد الفرنج.
ويأتي طلب العلم في المنزلة الثانية بعد الحج، ولا سيما أن المغاربة قد استهوتهم عطاءات المشرق الثقافية منذ أمد بعيد. فارتحل العديد من نخبهم الدينية والأدبية والعلمية إلى حواضره، حيث نهلوا من معينه المعرفي، وأسهموا في تفجير ينابيع الثقافة والحكمة فيه، وانخرطوا في بنيته الاجتماعية منفعلين وفاعلين: فمنهم من استقر في هذه الحواضر، ومنهم من عاد إلى بلاده حاملاً معه نفيس الكتب، وإجازات الكفاءة والتقدير، وشهادات التزكية والاعتبار، وأسانيد القراءة والحديث، وسلاسل التصوف وتطهير القلوب والنفوس، بعد أن ترك هناك بصمات من ثقافته بارزة. ويضاف إلى ذلك، ما كان للظروف الصعبة السائدة في بلاد المغارب، آنذاك، من تأثير مباشر في حركة المغاربة إلى المشرق (اضطرابات سياسية، وفتن، ونفي، وهجرات قسرية لأسباب عقدية، وضرورات معيشية، وحب استطلاع…)([1]).
الحضور المغربي بدمشق ومكانته الاجتماعية
شهدت دمشق في زمن الحروب الصليبية قدوم المغاربة إليها، أفراداً وجماعات، من مستويات اجتماعية وثقافية مختلفة، جلّهم على المذهب المالكي. وكان من بينهم العلماء والأدباء وأصحاب الثروات والجاه. نذكر من الجماعات: أسرة الزواوي والبكري والبرزالي والشّريشي والقرطبي والتلمساني؛ ومن الأفراد: ابن مالك وابن عربي وابن البوني والرحالة ابن سعيد. ويضاف إلى هؤلاء وأولئك عدد كبير من الفقراء أمّوا المدينة أثناء رحلتهم إلى الديار المقدسة في الحجاز، فمنهم من أقام بها إلى حين، ومنهم من استقر.
هل يمكن الحديث عن وجود »جالية مغربية« بدمشق كان لها دور مؤثر في الحياة السياسية والاجتماعية في حاضرة الشام، في زمن »الحروب الصليبية«؟
إذا كانت المصادر المعاصرة التي وصل إليها اطلاعنا، لا تزودنا بمعلومات كافية تمكننا من إبداء رأي حاسم في هذه المسألة الدقيقة، فإن ما وقعنا عليه في مذكرات الرحالة ابن جبير، الذي قصد بلاد الشام ما بين عامي 581 هـ/ 1185 م و583 هـ/ 1187 م، وفي “تراجم” المؤرخ الدمشقي أبي شامة (ت. 665 هـ/ 1267 م) والرحالة علي بن سعيد الذي زار دمشق مرتين خلال عامي 648 هـ/ 1250 م، و666 هـ/ 1268 ، تسمح لنا بتوضيح بعض معالم هذه المسألة.
لم تأت المصادر، آنفة الذكر، على ذكر حي (حارة) للمغاربة في دمشق. ولعل السبب في ذلك يعود إلى أن الهجرة المغربية إلى دمشق لم تكن في دفوع كبيرة كي تشكل داخل المدينة كثافة سكانية مميزة. وما ذكره ابن جبير([2]) عن حسن ضيافة الدماشقة للمغاربة قد أسهم، ربما عن غير قصد، في توزُّع المغاربة في أحياء مختلفة من المدينة. وعليه، فإننا نجد، بالاعتماد على المؤرخين الشاميين أبي شامة([3]) وابن شداد([4])، أن كثيراً من المغاربة أقاموا في المدرسة العادلية، أو في جوارها، وفي مدرسة الكلاسة، وحلّ بعضهم في سفوح قاسيون ضيوفاً على أسر دمشقية؛ كما توزّعوا، بعد الوفاة، في مختلف مقابر دمشق وضواحيها، فدفن معظمهم بمقابر الباب الصغير في قاسيون، ومقابر الصوفية قرب الميدان الأخضر، وباب الفراديس، وبجوار مقبرة شيخ رسلان على مقربة من باب توما.
وثمة عامل آخر عوَّق إمكان تشكُّل »جالية مغربية« بدمشق، يتمثَّل في أن عدداً كبيراً من المغاربة الوافدين ـ ولا سيما الأجيال التي ولدت بدمشق، أو ترعرعت فيها ـ قد غادروا مذهبهم المالكي إلى أحد المذهبين الأكثر شيوعاً في المدينة، هما الشافعي والحنفي. ومنهم: ابن مالك([5]) الذي تحول إلى الشافعية، وتبعه ابنه بدر الدين، وابن فرخ المغربي([6]) الذي اعتنق الشافعية بتأثير من شيخه السّلمي، وكذلك أبو جعفر أحمد القرطبي الذي انتقل إلى الشافعية، هو وولداه إسماعيل ومحمد، بتأثير من الحافظ علي بن عساكر مؤرخ دمشق. أما جمال الدين محمد بن أحمد الشريشي([7])، فاستمر على مذهبه المالكي، فيما انتقل ابنه المولود بدمشق إلى الشافعية، ومارس القضاء وتدريس الفقه الشافعي بها. وثمة مغاربة انتقلوا إلى المذهب الحنفي، ومنهم: فخر الدين محمد بن المشرف بن الجنّان الشاطبي([8])، وأحمد بن عبد الله بن مهاجر الوادي آشي([9])، وابن معطي الزواوي، وجمال الدين محمد بن حسن الفاسي([10]). لكن قلما وقعنا على مغاربة بدمشق ممن انتقلوا إلى المذهب الحنبلي.
أما الذين استمروا على مذهبهم الأصلي، فغالبيتهم ممن شغلوا مناصب دينية، وخصوصاً في القضاء، منذ العام 664 هـ/ 1266 م، عندما أقر السلطان المملوكي الظاهر بيبرس مذاهب أهل السنة الأربعة (الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي) مذاهب رسمية لدولته، وأبطل ما عداها من المذاهب الإسلامية الأخرى([11])؛ وكذلك المغاربة الذين تعاطوا مهنة التدريس في المدارس المالكية الأربع([12]): اثنتان منها أُنشئَتا في القرن السادس، إحداهما هي الزاوية المالكية، في الجانب الغربي من الجامع الأموي، قرب المقصورة الحنفية، وكان لها أوقاف كثيرة »منها طاحونتان، وسبعة بساتين، وأرض بيضاء، وحمام ودكانان بالعطارين«، و»أن هذا الوقف المغربي يغل إذا كان النظر فيه جيداً خمسمائة دينار في العام«([13])؛ والمدرسة الأخرى هي »النورية«، المنسوبة إلى نور الدين زنكي، ويقال لها أيضاً »الصلاحية« نسبة إلى صلاح الدين الأيوبي. تقع المدرسة النورية في حارة حجر الذهب، في منتصف الطريق بين القلعة والمسجد الأموي، وقد أضحت هي والزاوية المالكية تابعتين لأسرة الزواوي المغربية، التي كان منها أوائل قضاة القضاة المالكية في المدينة. أما المدرستان الأخريان، فأنشئتا في النصف الثاني من القرن السابع، وهما: المدرسة الشرابيشية، داخل باب الجابية، إلى الغرب من المدينة القديمة، وواقفها علي بن محاسن الشرابيشي المغربي، والمدرسة الصمصامية، بين القلعة والجامع الأموي، وواقفها غبريال الأسمري أو الأسلمي. ويضاف إلى المدارس المالكية الأربع تربة أم الصالح نجم الدين أيوب، حيث دفن أول قاضي قضاة مالكي في المدينة، وكذلك الرباط الناصري، في سفح قاسيون، قرب تربة التكريتي. بنى الرباط المذكور، الذي اختص بالمتصوف المغربي محيي الدين بن عربي، الناصر يوسف، آخر ملك أيوبي بدمشق([14]).
ويضاف إلى »النخب المالكية«، الذين تشبثوا بمذهبهم، عدد من فقراء المغاربة، من طلبة العلم خصوصاً، وهؤلاء كانوا يعتاشون، إجمالاً، من عائدات أوقاف الزاوية المالكية وأوقاف المدارس المالكية الأخرى([15]). وإلى جانب المؤسسات الدينية المغربية، هناك مسجد مدرسة الكلاسة شمال الجامع الأموي، وإن يكن رواده المغاربة من غير المالكية. وعليه، ألا يمكن اعتبار كل من المراكز الدينية السالفة، ذات الأغلبية المغربية، شكلاً من أشكال الاجتماع المغربي بدمشق؟
يستفاد مما تقدم في أن ثمة مكانة اجتماعية استحوذ عليها المغاربة في حاضرة الشام، ما يستدعي السؤال الآتي: ما مرتكزات هذه المكانة، واستطراداً، هل نجح هؤلاء الوافدون في الاندماج في المجتمع الدمشقي؟
بالعودة إلى المصادر المعاصرة المتوافرة لدينا، يمكننا القول بأن المغاربة قد احتلوا منزلة مقدرة في المجتمع الدمشقي، لأسباب عديدة تأتي في طليعتها إسهاماتهم في حركة الجهاد ضد الفرنج، والتزامهم الزهد والتصوف، وسمو المناصب الدينية والدنيوية التي أسندت إليهم، بالإضافة إلى ما تمرّسوا به من وظائف ومهن.
1 ـ مشاركة المغاربة في مجاهدة الفرنج في الشرق
قلَّما خلت المصادر الإسلامية المعاصرة لـ»الحروب الصليبية« من لمع عن حركة الحدث، أو »مستجدات الأحوال«، في شرق المتوسط وغربه، وما كان يتعرض له المسلمون من أخطار في كلتا المنطقتين على أيدي الفرنج، فضلاً عن مضامين المراسلات بين الحكام المسلمين أنفسهم، لاستطلاع الأخبار أو لطلب النجدات، أو بين الحكام المسلمين وأسياد الفرنج، لتحذير الأخيرين من مغبة التمادي بالاعتداء على المسلمين. من ذلك: الرسائل([16]) التي وجهها صلاح الدين الأيوبي إلى الملك الموحدي يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن يطلب منه إرسال نجدة بحرية عاجلة لفك الحصار الذي ضربه الفرنج على مدينة عكا. ومما جاء في إحداها: »وأحوج ما كنا إلى النجدة البحرية والأساطيل المغربية«؛ وأيضاً: الرسالتان([17]) اللتان بعث السلطان المملوكي بيبرس بإحداهما إلى ملك فرنسا لويس التاسع الذي قاد حملة صليبية إلى تونس، عام 670 هـ/ 1272 م، والأخرى إلى صاحب تونس محمد بن يحيى الهنتاتي. انطوت الرسالة الأولى على تهديد صريح لملك فرنسا بأن السلطان سيقاتله دون هوادة إذا ما تابع اعتداءاته على تونس؛ ويعلم صاحب تونس، في الرسالة الثانية، بأنه على استعداد لمؤازرته في قتال الفرنج، وأنه كتب إلى عربان المغرب وبرقة طالباً منهم الإسهام في دفع الخطر الفرنجي عن تونس. ويضاف إلى ما تقدم الأخبار التي نقلها الرحالة عن الحروب الدائرة بين المسلمين والفرنج خلال تجوالهم بين بلاد المشرق والمغرب.
كان من الطبيعي، والحالة تلك، أن يسود مناخ تعبوي في مختلف الأوساط الإسلامية، وأن يبادر عامة المسلمين وخاصتهم إلى قتال الفرنج، بوصفه جهاداً ضد أعداء الدين، في ساحتيه المشرقية والمغربية. لذلك لم يكن غريباً أن يسهم المغاربة المرتحلون إلى المشرق بمجاهدة الصليبيين، وأن يلقوا، بذلك، التقدير والثناء من إخوانهم المشرقيين، في مقابل ما تعرضوا له من الضيق والأسر على أيدي الصليبيين.
لقد ذكر ابن الأثير([18])، في حوادث 543 هـ/ 1148 م، أنه أثناء حصار الفرنج لمدينة دمشق، خرج العسكر والأهالي لمواجهتهم. وكان في من خرج راجلاً مع الجمع الفقيهُ المالكي أبو الحجاج يوسف الفندلاوي المغربي، وكان طاعناً في السن، فتقدم وقاتل حتى قتل.
من ذلك أيضاً: مشاركة المغاربة جيش نور الدين زنكي في الهجوم على أحد حصون الفرنج، ما أثار استياء هؤلاء، وأضمروا الشر للمغاربة، وأثقلوا كاهل العابرين منهم للأراضي الخاضعة للفرنج بضريبة المكس »ولا اعتراض على غيرهم من جميع بلاد المسلمين«. ويبرر الفرنج هذه الضريبة المفروضة على المغاربة ـ حسب ما ذكر ابن جبير([19])ـ بـ»أن هؤلاء المغاربة كانوا يختلفون إلى بلادنا ونسالمهم… فلما تعرضوا لحربنا، وتألبوا مع إخوانهم المسلمين علينا، وجب أن نضع هذه الضريبة عليهم…«. كما اشترك البحارة المغاربة في قيادة سفن الحملة البحرية التي أرسلها بيبرس لمهاجمة قبرص، عام 669 هـ/ 1271 م، فوقع بعضهم في الأسر، ومن بينهم الريس شهاب الدين أبو العباس المغربي([20]).
وعكس المؤرخون المشرقيون تقدير عساكر المسلمين لفعالية المنجنيق المغربي في دك حصون الفرنج وقلاعهم المنيعة. من ذلك ما ذكره ابن عبد الظاهر([21]) في فتح حصن صفد على يد الظاهر بيبرس عام 663 هـ/ 1265 م، فقال: »ورمي المنجنيق المغربي في هذا اليوم، فأثر آثاراً حسنة«. كما لفت السلطان صلاح الدين إلى تمرس المغاربة بمجاهدة أعداء الإسلام في رسالة بعث بها إلى الخليفة العباسي ببغداد، يزف إليه فيها نبأ استيلائه على حصن بيت الأحزان، منوهاً بدور المغاربة في فتح الحصن المنيع، بقوله([22]): »واحتلت به الرجال الذين يعملون في البحر، ويفتكون في البر، ومن هو معروف من المغاربة بغزو بلاد الكفر«.
لذا حرص المشارقة على إظهار تقديرهم وإعجابهم بما بذله إخوانهم المغاربة، ذوداً عن حياض الإسلام في المشرق، بمثل اندفاعهم لجبه الأخطار عن بلادهم، فاحتضنوهم وتعاطفوا معهم، وتمادوا بتكريمهم ومساعدتهم. وقد تمظهر ذلك في الأمور التالية:
ـ الاهتمام بمسألة افتكاك الأسرى المغاربة من قبضة الفرنج، والارتقاء بها إلى مستوى الواجب الديني، واعتبارها سبيلاً للفوز بالثواب. يذكر أسامة بن منقذ([23])، في سياق إشارته إلى سعيه لافتكاك نحو أربع مائة من المغاربة وقعوا في أسر الفرنج، أن معين الدين أنر، صاحب دمشق، أصر على أن يسهم بنفقات افتكاك هؤلاء الأسرى، قائلاً لأسامة: »لا، بل أنا أزن والله ثمنهم، وأنا أرغب الناس في ثوابهم«. وألمح ابن جبير([24]) إلى تفضيل الحكام المشارقة افتكاك الأسرى المغاربة على افتكاك بقية الأسرى المسلمين، فذكر أن نور الدين زنكي نذر في مرضة أصابته مبلغاً كبيراً من المال لفداء أسرى من المغاربة. »فلما ابتل من مرضه، أرسل في فدائهم. فسيق فيهم نفر ليسوا مغاربة ـ وكانوا من حماة من جملة عمالته ـ فأمر بصرفهم وإخراج عوض منهم من المغاربة، وقال: هؤلاء يفتكُّهم أهلهم وجيرانهم، والمغاربة غرباء لا أهل لهم«. وفي عام 665 هـ/ 1267 م، اشترط السلطان بيبرس على أسياد صور الفرنج أن يطلقوا أسرى المغاربة كي يوافق على عقد هدنة معهم لمدة عشر سنين([25]). كما أسقط صلاح الدين ما كان يعرف بـ»مكس مكة«، وعوّض أمير مكة غلالاً تحمل إليه في كل سنة، بعد أن »كان يؤخذ من حاج المغرب على عدد الرؤوس ما ينسب إلى الضرائب والمكوس. فإذا دخل حاج، حبس حتى يؤدي مكسه…؛ وإذا كان فقيراً لا يملك، فهو يحبس ولا يترك، وتفوته الوقفة بعرفة«([26]).
لم يقتصر أمر افتكاك الأسرى المغاربة على الحكام، بل تغلغل في وجدان جمهور المسلمين المشرقيين الذين لم يترددوا في بذل أموالهم فداء لأسرى المغاربة، حتى »أن كل من يخرج من ماله وصية من المسلمين، بهذه الجهات الشامية وسواها، إنما يعيّنها في افتكاك المغاربة… فملوك أهل هذه الجهات من المسلمين، والخواتين من النساء، وأهل اليسار والثراء إنما ينفقون أموالهم في هذه السبيل«([27]).
ـ تعظيم أهل دمشق للحجاج المغاربة، والاحتفاء بهم لدى عودتهم من أداء مناسك الحج. فابن جبير([28]) قدّم لنا وصفاً حيّاً لاستقبال الحجيج المغربي بدمشق. يقول في مذكراته: »ومن أغرب ما حدثناه من ذلك أن الحاج الدمشقي، مع من انضاف إليهم من المغاربة، عند صدورهم إلى دمشق، في هذا العام، الذي هو عام ثمانين، خرج الناس لتلقيهم، الجم الغفير، نساء ورجالاً، يصافحونهم ويتمسحون بهم، وأخرجوا الدراهم لفقرائهم يتلقونهم بها، وأخرجوا إليهم الأطعمة«، على الرغم من قرب مسافة الحج من الدمشقيين، »وتيسير ذلك لهم، واستطاعتهم لسبيله«.
ـ توفير سبل المعاش لفقراء المغاربة بدمشق، من خلال أوقاف كانت »أكثر من أن يأخذها الإحصاء«، اختصت بالعلماء وطلبة العلم وإيواء المحتاجين (الزاوية المالكية، مثلاً)، بالإضافة إلى تأمين عمل في خدمة، تفترض الأمانة في شاغلها، لمن ليس له عهد من المغاربة في مهنة: من إمامة في مسجد، أو التزام زاوية من زوايا الجامع الأموي، أو ناطور في بستان، أو خادم في حمام، أو أمين في طاحونة، أو كفالة صبيان، إلى غير ذلك من وجوه المعاش([29]).
إن رعاية أهل دمشق لفقراء المغاربة قد طاولت بالضرورة المتصوفة منهم أيضاً. فدمشق عرفت الفرق الصوفية، في فترة مبكرة، وبخاصة في القرن الخامس، لتتبلور صلتها بالتصوف في القرن السابع بتأثير من طروحات محيي الدين بن عربي([30]). فبالإضافة إلى المواقع الصوفية الأساسية (خانقاوات وربط) القائمة عند أبواب المدينة القديمة (باب توما، والباب الشرقي، وباب الجابية، وباب السلام، وباب النصر، وباب البريد)، وفي جبل الصالحية، وقاسيون، وفي المقبرة المعروفة بـ»مقبرة فقراء المغاربة«، أو »مقبرة فقراء الصوفية«، وحول الجامع الأموي (الكلاسة) وفي داخله، فإن ثمة أحياء أخرى خارج المدينة القديمة، في الشرف القبلي (الجنوب) والشاغور وبيت لهية وقصر الحجاج وفي الميدان الكبير، تشهد جميعها على حيوية الحياة الصوفية بدمشق، التي كان للمغاربة فيها حضور مميز([31]). وشاهدنا على ذلك ابن عربي الذي حل بدمشق، عام 627 هـ/ 1230 م، بعد أن ارتحل وطاف بلاد المشرق وغيرها، وتوفي بها بعد إحدى عشرة سنة، ودفن هو وأولاده بقبته، في حي من أحياء قاسيون، لا يزال يحمل اسمه (حي محيي الدين بن عربي)، تخليداً لذكراه. وعلى الرغم من حالة الجدل التي أثارتها مطارحاته واجتهاداته في الأوساط الدينية بدمشق (موقف كبير الحنابلة الشيخ ابن تيمية)، فإن ما كان لابن عربي من هيبة لدى الخاصة والعامة قلل من شأن معارضيه في حياته، وحفظ له مكانة عالية بعد وفاته ([32]).
لهذه الأسباب جميعاً، ينصح ابن جبير([33]) أهل المغرب بالترحال إلى المشرق، لأن المغربي هناك سوف »يجد الأمور المعينات كثيرة«، منوهاً بدمشق لأن »الاحتفال بهذه البلدة أكثر، والاتساع أجود«.
2 ـ منصب القضاء
ثمة خاصية تميز بها قضاة المغاربة في الوسط الدمشقي، المالكية منهم تحديداً، تمثلت في البساطة والابتعاد عن مباهج الدنيا وبهارجها، مما أضفى على منصب قاضي قضاة المالكية مهابة مؤكدة. فقد جاء في بعض المصادر([34]) أن زين الدين عبد السلام الزواوي (ت. 681 هـ/ 1282 م) اشترط على السلطان الظاهر بيبرس، كي يقبل تكليفه بمنصب قضاء قضاة المالكية بدمشق، عام 664 هـ/ 1266 م، موافقة السلطان على أن لا تصرف له جامكية، فاستمر في منصبه إلى أن توفي السلطان عام 676 هـ/ 1277 م، ليشغله من بعده نفر من أسرته إلى ما بعد القرن السابع، كجمال الدين يوسف الزواوي (ت. 683 هـ/ 1285 م)، وجمال الدين محمد بن سليمان الزواوي (ت. 717 هـ/ 1317 م). أما جمال الدين محمد بن أحمد الشريشي، فقد امتنع عن قبول منصب القضاء بدمشق، واختار أن يتفرغ للتدريس والموعظة. واستمر المنصب لأجله شاغراً إلى أن توفي عام 685 هـ/ 1286 م([35]).
3 ـ وظيفة التعليم
ـ التعليم الديني
بالإضافة إلى تمرسهم بتدريس الفقه المالكي ـ وقد شاركهم فيه بعض كبار علماء المالكية من المشارقة (جمال الدين عثمان بن الحاجب المتوفى عام 646 هـ/ 1249 م) وكـذلك الفقهين الشافعي والحنفـي، لمعت شهرة المغاربة في قراءة القرآن ـ القراءات السبع ـ وعرف منهم: علي بن عبد الله بن الهادي الإشبيلي (ت. 648 هـ/ 1250 م) والزين الزواوي وأبو جعفر أحمد القرطبي (ت. 596 هـ/ 1200 م) مؤسس الأسرة القرطبية بدمشق وإمام الكلاسة، وعلي بن عبد الله الإشبيلي (646 هـ/ 1248 م) والقاسم بن أحمد بن السداد اللورقي (ت. 661 هـ/ 1263 م) وأبو بكر عمر بن علي القسنطيني (ت. 695 هـ/ 1296 م) تلميذ ابن معطي الزواوي الحنفي (ت. 628 هـ/ 1230 م) وأحمد بن شعيب الصقلي (ت. 663 هـ/ 1265 م) تلميذ علم الدين السخاوي وأبو بكر محمد بن التونسي (ت. 718 هـ/ 1318 م).
وتميز المغاربة المقيمون بدمشق في علم الحديث وتدريسه. نذكر منهم: إبراهيم بن عيسى المرادي الإشبيلي الشافعي (ت. 668 هـ/ 1269 م)، إمام المدرسة الباذرائية وشيخ الحديث فيها، بالإضافة إلى توليه إمامة مشيخة الحديث الأشرفية، بعد أبي شامة، فاستمر بها إلى حين وفاته. تتلمذ على المرادي عدد من مشاهير العلماء، منهم الشيخ محيي الدين النواوي (ت. 676 هـ/ 1277 م)، الذي تولى إمامة مشيخة الحديث الأشرفية، بعد وفاة أبي شامة عام 665 هـ/ 1267 م، ودرس بها كتاب “الجامع بين الصحيحين”، وهو مصنف في علم الحديث، وضعه، قبل قرنين من الزمن، عالم مغربي يدعى الحافظ أبو عبد الله الحميدي الميورقي (ت. 488 هـ/ 1195 م). ونذكر كذلك الحافظ زين الدين محمد بن يوسف البرزالي الإشبيلي، محدث الشام (ت. 636 هـ/ 1238 م)، ومحمد بن سعيد بن الجنّان الأندلسي (ت. 675 هـ/ 1276 م).
كما بزّ المغاربة إخوانهم المشارقة في علوم اللغة العربية، وبخاصة في علم النحو، وتفوقوا عليهم فيه. يحضرنا في هذا السياق ذكر ابن معطي الزواوي صاحب “الألفية” الأولى، وتلميذه جمال الدين محمد بن مالك الجياني (ت. 672 هـ/ 1273 م)، صاحب “الألفية” المشهورة في النحو، وابنه بدر الدين محمد المعروف بابن الناظم (ت. 686 هـ/ 1287 م)، شارح “ألفية” أبيه، والقاسم بن أحمد اللورقي (ت. 661 هـ/ 1262 م).
ـ التعليم الدنيوي
ثمة مجال تعليمي آخر برع فيه المغاربة بدمشق يتمثل في الطب والصيدلة. فقد كان محمد بن عبد الله الباهلي الإشبيلي رئيساً للأطباء في البيمارستان النوري، والطبيب الخاص لنور الدين زنكي. ويذكر ابن شداد([36]) أن الطب بدمشق في عصره كان يدرّس في اللبودية النجمية، إحدى مدرستي الطب في دمشق، آنذاك. كانت هذه المدرسة منذ إنشائها، عام 664 هـ/ 1266 م، واستمرت لفترة طويلة، مركز استقطاب لعدد وافر من الأطباء المغاربة الذين استقروا بدمشق، كجمال الدين الزواوي، ثاني قاضي قضاة المالكية بدمشق، والجرايحي ياسين بن عبد الله المغربي المراكشي (ت. 687 هـ/ 1288 م)، أحد أوائل شيوخ الإمام النواوي، وكذلك أحمد النبطي المعروف بابن الرومية (ت. 637 هـ/ 1239 م) المتعدد المعارف، ومنها علم النبات، وعبد الله بن أحمد بن البيطار المالقي (ت. 646 هـ/ 1248 م) ([37])، مصنف كتاب “المفردات في الأدوية”، وصاحب الباع الطويل في علم النبات إلى جانب الطب، وكان رئيس الصيادلة في أيام الملك الكامل الأيوبي وولده الصالح أيوب؛ وكذلك منصور بن علي بن عبد الله المغربي، الذي قال فيه أبو شامة بأنه »فاضل في علم الطب«.
بالإضافة إلى الوظائف الدينية التعليمية والطبية، أسندت إلى المغاربة وظائف مختلفة، منها: نظر الدواوين والحسبة ووكالة بيت المال وعمل الخزانة ونظر البيمارستان وأمانة السجن…
أما المهن المسماة اليوم بـ»المهن الحرة«، وبخاصة تلك المتصلة بالتبادل الاقتصادي، وتجارة العقارات، والتبادل التجاري والمالي، فليس لدينا معلومات تمكننا من الاطلاع على نصيب المغاربة منها بدمشق، باستثناء إشارات سريعة، وقعنا عليها في بعض المصادر، تلمح إلى مهن تعاطاها المغاربة في المدينة، مثل: ملاك ونجار ودقاق في الحنطة وكتبي (بائع الكتب) وشوّاء…
4 ـ مسألة الاندماج
تستدعي مكانة المغاربة المقدَّرة في مختلف الأوساط الاجتماعية الدمشقية، إعادة طرح السؤال حول مسألة اندماج هؤلاء في مجتمع دمشق. فهل كان ذلك متعذراً أو ممكناً؟ وإذا كان ما ذكرناه حول المكانة الاجتماعية التي حاز عليها المغاربة بحاضرة الشام يبرر إمكان استبعاد الاحتمال الأول وترجيح الاحتمال الثاني، فهل كان هذا الاندماج تاماً؟
ليس ثمة ما يشجع على القول بأن اندماج المغاربة في المجتمع الدمشقي كان تاماً. ولعل قصورنا عن إبداء رأي حاسم في هذا الأمر يعود، عموماً، إلى ندرة المعلومات التي يمكن الركون إليها؛ وإلى إحجام معظم سكان دمشق عن اعتناق المالكية، مذهب أغلبية المغاربـة، وتأثير ذلك، بالضرورة، في حركة انتقال عدد كبير من المغاربة إلى المذهب الأكثر نفوذاً في المدينة، على الرغم من تعزيز مكانة القضاء المالكي فيها، بدءاً من عام 664 هـ/ 1266 م، من جهة؛ وإلى شيوع استخدام مصطلح »الغرباء المغاربة«، أو »الغرباء«، مرادفاً لمصطلح »المغاربة« ليس في المصادر المشرقية المعاصرة والمتأخرة فقط، بل في المصادر المغربية نفسها أيضاً (ابن جبير، مثلاً)، من جهة أخرى، فضلاً عن أن »عالم بيوتات دمشق« قلما عرف العلاقات الاجتماعية اليومية مع المغاربة، وبالتالي إذا ما حصل شيء من هذا القبيل، فإنه كان محصوراً محدود الانتشار.
ومع ذلك، فإن ثمة ما يشير إلى روابط اجتماعية وثيقة نشأت بين أسر دمشقية عريقة وبعض المغاربة. فأسرة بني الزكي الشافعية، التي لحظت في عدادها سبعة من أبنائها، على الأقل، ممن تولوا منصب قاضي قضاة الشافعية، ما بين 530 هـ/ 1136 م و685 هـ/ 1286 م، احتضنت ورعت المتصوف محيي الدين بن عربي منذ قدومه إلى دمشق، عام 627 هـ/ 1229 م، فكان لبني الزكي »عليه اشتمال وبه احتفال، ولجميع ما يقوله احتمال« حسب تعبير ابن كثير([38]). ويذكر المقري([39]) أن ابن الزكي كان يقدم لابن عربي ثلاثين درهماً يومياً، وأن الأخير استقر، في أواخر حياته، وإلى حين وفاته، ضيفاً على قاضي القضاة محيي الدين يحيى بن الزكي (ت. 668 هـ/ 1270 م)، المعروف بمواقفه غير الإيجابية من الأفكار الصوفية. وتكريماً للمتصوف الكبير، قرر بنو الزكي أن يدفن ابن عربي في تربتهم القائمة عند سفح جبل قاسيون، بالرغم من عدم وجود علاقة نسب أو مصاهرة بينهم وبين ابن عربي وذريته. كما نشير، في الإطار نفسه، إلى علاقة طيبة قامت بين بني جماعة، الأسرة الدمشقية ذائعة الصيت، وكمال الدين أحمد بن جمال الدين محمد بن أحمد البكري (ت. 718 هـ/ 1318 م)، أحد أفراد أسرة الشريشي المغربية الذي تحول إلى المذهب الشافعي، أسفرت عن تولي الأخير نيابة الحكم عن قاضي القضاة الشافعي بدر الدين محمد بن جماعة، ومشاركته إياه، لبعض الوقت، مهمة التدريس في المدرسة الناصرية([40]).
وتمثل حالة المؤرخ الدمشقي أبي شامة وأسرته مثالاً نموذجياً للروابط الاجتماعية الحميمـة بين الدماشقة والمغاربة. لقد أشار المؤرخ في “تراجمـ”ـه إلى أواصر قربى جمعت بين أسرته والمغاربة، تعود بداياتها إلى جيل سابق. فوالده إسماعيل تزوّج من امرأة مغربية، هي شقيقة شرف الدين يحيى بن المغربي (ت. 661 هـ/ 1263 م)، وأن إحدى زوجات أبي شامة الثلاث كانت من أسرة العبدري الأندلسية، وقد مدحها مؤرخنا بقصيدة فريدة بلغت سبعة وأربعين بيتاً([41])؛ كما تزوجت ابنته فاطمة من أحد أفراد أسرة البكري المراكشية الأصل، وأن بعض أولاده دفنوا في مقبرة خليل بن زويزان([42]) حيث استقر عدد كبير من المغاربة.
ومما يعزز إمكان اندماج المغاربة في المجتمع الدمشقي مشاركة هؤلاء في المهام والأعباء العامة للمدينة. فثمة أسر مغربية حلت بدمشق في زمن »الحروب الصليبية«، كبني الزواوي والبكري والبرزالي والشريشي والتلمساني، شاركت في ما نسميه اليوم بـ»الخدمة المدنية« في المدينة، إلى جانب التزامها المهام الدينية، والجهادية. من ذلك تولي علاء الدين علي بن محمد البكري نظر الدواوين ونظر البيمارستان النوري، وتولي عفيف الدين التلمساني الكتابة في الدواوين، وتولي ابن الشاب الظريف الإدارة المالية للمدينة (عمل الخزانة)، وأسندت وظيفة أمانة سجن دمشق لأحد أفراد أسرة اللمتوني.
خاتمة
عرف عدد كبير من المغاربة المستقرين بدمشق، أو من الذين حلوا بها إلى حين، كيف يوفرون لأنفسهم مكانة مرموقة وسمعة حسنة في مدينة لم تكن مهيَّأة تماماً لاستيعابهم، بسبب تعرضها، وقتذاك، لأخطار داخلية وخارجية مشابهة إلى حد بعيد لتلك التي تعرضت لها بلادهم، وقوضت دعائم الاستقرار فيها ودفعتهم لمغادرتها إلى المشرق. ومع ذلك، لم ينجح المغاربة في إحداث اختراق واسع في البنية المجتمعية للمدينة، على قاعدة الانصهار أو الاندماج بالسكان. ولعل السبب في ذلك يعود إلى جملة معوقات، يتصل بعضها بخصوصيات الجماعات التي تتشبث بتمايزها عن الجماعات الأخرى، محاذرة الذوبان في الإطار الأشمل والأرحب، وتظل تفعل فعلها في الوعي واللاّوعي الفردي والجماعي عموماً. ولا نستثني مما ذهبنا إليه المشارقة والمغاربة العرب والمسلمين، على الرغم من كثافة العناصر التي تجمع بينهم، دينياً وتاريخياً وحضارياً.
فالمذهب المالكي السائد في بلاد المغارب لم يستطع إثبات حضوره الفاعل في حاضرة الشـام ـ وكذلك الأمر في بقيـة الحواضر الشامية ـ على حساب المذاهب السنية الأخرى، التي لم تكتف بإظهار ممانعتها لانتشار المذهب المالكي في حياضها وبين مريديها، بل سعت حثيثاً في استنزافه، باستخدام مختلف وسائل الضغط الأدبي والتعليمي/ المعرفي، لإقناع المغاربة بالتحول عن مذهبهم الأصلي إلى أحد المذاهب الأخرى التي شهدت، وخصوصاً المذهب الشافعي، وبدرجة أقل المذهب الحنفي، إقبالاً لافتاً من قبل المغاربة »الدمشقيين«، دون أن يعدم المذهب المالكي وسيلة لاستقطاب عدد من عامة الشوام ونخبهم (حالة العلامة ابن الحاجب، مثلاً)، مما قلَّص من نفوذ المالكية، وقلل من تأثيرها في الحياة الدينية والثقافية والاجتماعية بدمشق، كما في سائر مدن الشام، مقارنة مع دورها المؤثر بإعلاء شأن السنة في غير مكان من العالم الإسلامي، وبخاصة في بلاد المغارب، وبعض الديار المصرية. فكان لزاماً على أتباع المالكية ببلاد الشام أن يكوّنوا، فيما بينهم، شكلاً من أشكال الاجتماع، حرص على تعزيز روابطه خارج بلاد الشام، حيث المذهب المالكي أكثر حضوراً وفاعلية.
وفي مطلق الأحوال، ومع إقرارنا بأن انخراط المغاربة في المجتمع الدمشقي لم يرق إلى مستوى الاندماج العام، فثمة ثابتة مفادها أن الاحتكاك الحضاري بين المغاربة والشوام كان له دور مؤثر في تطور حركة الفكر والاجتماع في المشرق والمغرب. فعلاقات التثاقف والتواصل التي قامت، منذ أمد طويل، بين قطبي العالم العربي ـ الإسلامي، وبخاصة في زمن »الحروب الصليبية«، أفضت إلى حالة حراك فكري ثري، أسفرت عن تلاقح ثقافي واجتماعي، كان له، ولا يزال، حضور ودينامية في النتاجات العربية ـ الإسلامية، في مختلف الميادين، وتأثيرات متبادلة جدير بنا أن نمعن النظر فيها بحثاً ودراسة وتمحيصاً.
هوامش:
([1]) M. Talbi, art. «Maghariba», EI 2, V , pp. 1149-1150.
([2]) ابن جبير، الرحلة، بيروت ـ القاهرة، د. ت، صص. 199 ـ 200.
([3]) أبو شامة، الذيل على الروضتين (تراجم القرنين السادس والسابع)، بيروت، 1974.
([4]) ابن شداد، الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة، ج 2، ق 2؛ تاريخ مدينة دمشق، تحقيق سامي الدهان، دمشق، 1953.
([5]) ابن أيبك الصفدي، الوافي بالوفيات، تحقيق س. ديدرينغ، فيسبادن، 1981، ج 3، صص. 359 ـ 364.
([6]) C.F. Seybold, art. «Ibin Farh», EI 2, III, p. 786.
([7]) المقري، نفح الطيب، تحقيق إحسان عباس، بيروت، 1968، ج 2، صص. 217 ـ 218.
([8]) المصدر نفسه، صص. 120 ـ 123.
([9]) ابن أيبك الصفدي، المصدر السابق، تحقيق إحسان عباس، فبسبادن، 1981، ج 7، صص. 136 ـ 137.
([10]) أبو شامة، الذيل، المصدر السابق، ص. 199.
([11]) المقريزي، كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك، تحقيق محمد مصطفى زيادة، القاهرة، 1957، ج 1، ق 2، صص. 542 ـ 543.
([12]) L. Pouzet, Damas au VII/ XIIIème siècle, Beyrouth, pp. 103-104.
([13]) ابن جبير، المصدر السابق، ص. 199.
([14]) Pouzet, op. cit., p. 103.
([15]) انظر ابن جبير، المصدر السابق، صص. 191 ـ 199.
([16]) انظر: أبو شامة، كتاب الروضتين في أخبار الدولتين، المصدر السابق، ج 2، صص. 170 ـ 171، 184.
([17]) ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر، تحقيق عبد العزيز الخويطر، الرياض، 1976، صص. 373 ـ 374.
([18]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ، بيروت، 1967، م 9، ص. 20.
([19]) ابن جبير، المصدر السابق، ص. 210.
([20]) ابن شداد، تاريخ الملك الظاهر، تحقيق أحمد حطيط، فيسبادن، 1983، ص. 103.
([21]) ابن عبد الظاهر، المصدر السابق، ص. 258.
([22]) أبو شامة، كتاب الروضتين، المصدر السابق، ج 2، صص. 13 ـ 14.
([23]) أسامة بن منقذ، كتاب الاعتبار، مراجعة وتدقيق حسن الزين، بيروت، 1988، صص. 80 ـ 81.
([24]) ابن جبير، المصدر السابق، ص. 214.
([25]) ابن عبد الظاهر، المصدر السابق، ص. 282.
([26]) أبو شامة، كتاب الروضتين، المصدر السابق، ج 2، ص. 3.
([27]) ابن جبير، المصدر السابق، صص. 214 ـ 215.
([28]) المصدر نفسه، ص. 200.
([29]) المصدر نفسه، ص. 195.
([30]) Pouzet, op. cit., p. 207 sq.؛ راجع أيضاً: إبراهيم بوتشيش، المغرب والأندلس في عصر المرابطين، بيروت، 1993، صص. 129 ـ 130.
([31]) Pouzet, ibid ., pp. 210-213.
([32]) Pouzet, Maghrébins à Damas au VII/ XIIIsme siècle, Damas, p. 1140.
([33]) ابن جبير، المصدرالسابق، ص. 200.
([34]) عن مكانة الزين الزواوي ووقاره وزهده، انظر: أبو شامة، الذيل، صص. 235 ـ 236؛ ابن شداد، تاريخ الملك الظاهر، ص. 237.
([35]) ابن أيبك الصفدي، الوافي، تحقيق س. ديدرينغ، فيسبادن، 1981، ج 2، صص. 131 ـ 132.
([36]) ابن شداد، الأعلاق، ج 2، ق 2، ص. 266.
([37]) ابن العماد الحنبلي، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، بيروت، 1979، ج 5، ص. 234.
([38]) ابن كثير، البداية والنهاية في التاريخ، بيروت، 1966، ج 13، ص. 153.
([39]) المقري، نفح الطيب، المصدر السابق، ج 2، ص. 166.
([40]) المصدر نفسه، ج 2، صص. 217 ـ 218.
([41]) للاطلاع على هذه القصيدة، راجع: أبو شامة، الذيل، المصدر السابق، صص. 196 ـ 198.
([42]) تقع في سفح جبل قاسيون، إلى الجنوب من مقبرة الصوفية. كانت مقبرة لأشراف القوم، وهي منسوبة لواقفها خليل بن زويزان. (أبو شامة، المصدر نفسه، صص. 176 ـ 177).
*كلية الآداب ـ الجامعة اللبنانية ـ بيروت/مجلة “التاريخ العربي”