يبدو أن العبارة التقليدية “بتوجيهات فخامة رئيس الجمهورية” لم تعد كافية لإقناع أي أحد في الجزائر وخارجها بأن هناك رئيسا فعليا يسكن قصر المرادية، بل وتظهر الأحداث المتسارعة في هذا البلد العربي والإفريقي الهام بأنه لم يعد هناك طرف محدد يحكم باسمه، بعد أن درج الإعلام الداخلي والخارجي على التعامل مع الشقيق الأصغر للرئيس، السعيد بوتفليقة، على أنه الرئيس الفعلي والناطق الرسمي باسم شقيقه. فقد جاء آخر “الأحداث- الفضائح” المتمثل في المؤتمر الإفريقي للاستثمار والأعمال، ليكشف مدى الفوضى التي تعيشها أروقة السلطة في الجزائر، وكذا تعدد الأقطاب ومراكز القوى، ليس بين الرئاسة والجيش فحسب، بل الأخطر أنها واضحة الآن بين أقطاب نفس المعسكر الرئاسي مما قد ينبئ بما هو أسوا: انهيار المعسكر!!
تقليديا، وحتى لا نعود بالذاكرة بعيدا، نقول أنه منذ صيف العام الماضي بدأت الصراعات داخل أروقة السلطة في الجزائر تظهر للعلن، وجاءت الضربة القاصمة التي وجهها الجيش عبر عزل “رب الدزاير” الفريق محمد مدين (توفيق) لتترك على الساحة معسكرين لا ثالث لهما: الجيش ممثلا في رئاسة هيئة الأركان، والرئاسة ممثلة في الرئيس “العاجز” عبد العزيز بوتفليقة والمحيطين به، وكذا المرتبطين به من رجال أعمال وإعلام وسياسة. وهنا، تعددت القراءات واختلفت بشدة حول التوازن الجديد للسلطة في الجزائر، والتي لطالما كانت ثلاثية بتشكيل جهاز مخابرات توفيق ومن سبقه قطبا موازيا- بل ومهيمنا في أحيان كثيرة- لقطبي الرئاسة والجيش. وكان السؤال المركزي: لمصلحة من تم إنهاء نفوذ قطب المخابرات، وأي القطبين الآخرين كان المستفيد من ولادة هذه الثنائية؟
النظرية الأولى تركزت على كون الرئاسة هي من وظفت الجيش من أجل الانتقام من توفيق شخصيا الذي لم تكن أنباء معارضته لترشح الرئيس بوتفليقة لعهدة رابعة سرا، معتبرة أن الفريق أحمد قايد صالح رئيس هيئة أركان الجيش مجرد موظف عند بوتفليقة رئيسه المباشر، بل وعند السعيد بوتفليقة الحاكم الفعلي للجزائر من وجهة نظر أصحاب هذه النظرية. وذهب كثيرون أن هذا التطور يفتح الباب على مصراعيه أمام خلافة السعيد لأخيه العزيز فعليا لا من وراء ستار، عبر انتخابات عادية أو سابقة لأوانها، بعد ظهور عجز الرئيس الذي أنهكته الأمراض عن ممارسة مهامه.
النظرية الثانية قالت بأن إزاحة توفيق من قبل هيئة الأركان أتت في سياق مهمة أشمل هي تطهير الجيش مما يعرف في الجزائر ب”جنرالات فرنسا”، والذين كان توفيق قائدهم وأبرز وجوههم، مستدلين بباقي الإقالات والترقيات التي شملت مختلف جوانب المؤسسة العسكرية، انتظارا للشغور الرسمي لمنصب الرئاسة، قبل أن تستكمل مهمتها المتمثلة في محاولة تخليص الجزائر من الهيمنة والنفوذ الفرنسيين، والمستمر دون انقطاع منذ قرابة القرنين!!
وبقراءة الأحداث المتلاحقة التي تعيشها الجزائر منذ صيف العام الماضي، يتبدى للعيان تهافت النظرية الأولى، وإن لم تثبت بعد بالملموس تماسك وصلابة النظرية الثانية، حيث أن شرطها المتمثل بشغور منصب الرئاسة رسميا لا زال لم يتحقق. ومع ذلك، يمكن التوقف عند بعض أبرز الإشارات والأحداث الكاشفة، التي تبين أن هذه الحالة الضبابية في طريقها للزوال، دون أن يملك أحد القدرة على الحسم في مآلاتها. إشارات وأحداث نجملها في حدثين:
- إقالة سعداني:
لقد شكلت الإقالة المفاجئة والمدوية للأمين العام لحزب السلطة التاريخي “جبهة التحرير الوطني” عمار سعداني ردا مباشرا على تجاوزه خطوط الرئاسة الحمر بخصوص الحديث عن فرنسا وجنرالاتها، ولحظة “انتصار” للمرتبطين والمراهنين على معسكر الرئاسة، الذي أسفر عن ارتباطه بالمستعمر السابق عبر قرارات الحكومة الخاضعة، وهو ما أسال الكثير من المداد حول هذه العلاقة، عبر قرارات مختلف الوزارات الهادفة إلى تكريس ربط الاقتصاد الجزائري بنظيره الفرنسي، وكذا معركة فرض الفرنسية لغة عليا للدراسة، ضدا على إرادة غالبية الجزائريين. ومصدر الاحتفال، أن الجيش لم يحرك ساكنا من أجل حماية من كان يعتبر بنظر الكثيرين، الناطق السياسي غير الرسمي باسم هيئة الأركان، مدللين على هذا الموقف بقوة معسكرهم، بل ومعتبرين أنها خطوة تمهيدية لإقالة الفريق قايد صالح نفسه، واستبداله بآخر مقرب من جناح الرئاسة، لتكريسها قطبا أوحد في السلطة الجزائرية، وهو الأمر الذي لم يحدث حتى الآن. رد أصحاب النظرية الثانية يؤكد على أن عدم دفاع الجيش عن سعداني هو دليل إضافي على قرار رئاسة الأركان بعدم التحرك قبل الشغور الرسمي لمنصب الرئيس، احتراما للدستور وتحسبا لاتهامه بقيادة انقلاب صريح أو مقنع على “التجربة الديمقراطية الجزائرية” التي لا يؤمن بوجودها أحد.
- عودة توفيق:
وردا على حالة الفوضى التي يشهدها قطب الرئاسة والجهات المرتبطة به، ولغياب التوافق داخل هذا القطب حول الخليفة المحتمل للرئيس العاجز، ما بين الوزير الأول عبد المالك سلال ومدير ديوان الرئاسة أحمد أويحيى، أو حتى عبد العزيز بلخادم أو أية شخصية سياسية صورية يستمرون في الحكم باسمها؛ ولثبوت استحالة خلافة الرجل القوي السعيد بوتفليقة لأخيه لأسباب ذاتية وموضوعية شتى، بدأ الحديث يتصاعد عن عودة الفريق توفيق تحت مسميات شتى: مستشارا للرئيس أو حتى كمرشح محتمل لخلافته، من الجهات الإعلامية التي صنعها في البداية، ومن جهات أخرى داخل معسكر الرئاسة وامتداداتها في مرحلة تالية، وذلك لسببين: التحسب من الخطوة التالية للجيش في حال وفاة بوتفليقة، التي يستحيل معها تصور أي دور لتوفيق في العهد الجديد، وثانيا، إنهاء حالة الفوضى التي يعيشها معسكر الرئاسة مع تعدد المتدخلين وتنافر مراكز القوى داخله، نظرا لقوة الفريق توفيق وشخصيته وارتباطاته التي لا تزال متينة بمجتمع الأعمال والإعلام والسياسة، والتي تعتبر في مجملها صنيعة “رب الدزاير” على مدى عقود. فوضى، جاء مؤتمر الاستثمار الإفريقي ليكشف عن مدى تفاقمها، عندما “قفز” رأس طبقة رجال الأعمال علي حداد على منصة المؤتمر بعد انتهاء خطاب الوزير الأول عبد المالك سلال، متجاوزا البروتوكول الذي كان يضع وزيري الخارجية رمطان لعمامرة ووزير الاستثمار خلف وزيرهم الأول، وهو ما دفع سلال ووزرائه إلى الانسحاب في مشهد أنهى عمليا جميع الرهانات الموضوعة على المؤتمر الفاقد للرؤية والأدوات أصلا. تجاوز لا يمكن بحال حصره في خطأ بروتوكولي، بل يعكس بوضوح حالة الفوضى التي يعيشها معسكر الرئاسة وأقطابه المتعددة.
أخيرا، يبقى المجهول الأكبر متمثلا في موقف “السفير الفرنسي” الذي يعتبره كثيرون “الحاكم الفعلي للجزائر”، وتحديدا لجهة ترجيحه كفة أحد المتنافسين على وراثة بوتفليقة، الذي يمكنه خلق توافق حول شخصه وأجندته، وهو الأمر الذي يحتاج قراءة متأنية من قبل الفرنسيين، وسرعة في حسم هذه الفوضى حتى لا تخرج أوراق اللعبة من أيديهم تماما، في ساحة سريعة التحول. لكن الأكيد، أن حال الفوضى والفراغ لا يمكن أن يستمر طويلا، وأن تطورات حاسمة بدأت تقترب لتحدد مصير هذا البلد المحوري، والذي ليس من قبيل الصدفة، أن تكرر على مسامعنا كبريات مراكز الأبحاث والتفكير الأمريكية والأوروبية أنه مرشح فوق العادة لتصدر نشرات الأخبار، بسبب الفوضى التي ستعمه على مختلف المستويات خلال 2017، وهو ما ندعو الله مخلصين أن يجنبه هذا البلد وأهله، ويفشل كل مخطط لزعزعة استقراره، وأن يقيض له أخيرا قيادة رشيدة، تضع مصلحة المواطنين الجزائريين فوق كل اعتبار، لبدء حل جميع المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتراكمة منذ الاستقلال.