رغم مرور خمس سنوات على سقوط نظام العقيد معمر القذافي إثر ثورة الشعب الليبي في 2011، إلا أن “أمراء الحرب” الذين تقاسموا المال والسلاح ومعهما النفوذ، لا يزالون أبعد ما يكونون عن تمكين الليبين من الحياة الكريمة التي ثاروا من أجلها، ولا يزال “كل قوم بما لديهم فرحون” ومستمرون في الجري وراء سراب توسيع دائرة نفوذهم وبناء أمجادهم الشخصية على أشلاء أحلام الليبيين.
وساهمت التدخلات الإقليمية، من دول الجوار وباقي القوى الدولية ذات المصلحة، في تغذية أوهام الانتصار الساحق على الفريق الخصم، لدى مختلف قادة الميليشيا الذين بسطوا نفوذهم على مختلف مناطق ليبيا شرقا وغربا. ولم تسهم جولات الحوار المتعددة التي رعتها الأمم المتحدة في أكثر من مكان، وتوجت بمفاوضات الصخيرات التي أفرزت الاتفاق النهائي، لا في منع التدخلات الإقليمية، ولا في إدخال قادة الميليشيا المتحاربين إلى “بيت الطاعة” الوطني. ومن المؤسف أن قادة ميليشيا “العسكر” وجدوا دعما قويا من قادة ميليشيا “الدين”، وتسلح كل فريق بما يكفي من فتاوى تبيح إهراق الدم الليبي الزكي تحت مبررات “شرعية” و “وطنية” شتى، من قبل من يسهل عليهم التصدي لفتاوى القتل واستباحة الدماء.
وقد تناوب أمراء الحرب في كل من بنغازي وطرابلس، ومعهما أمراء حرب آخرون في الزنتان ومصراتة والجنوب الليبي، ناهيك عن دواعش سرت، في جعل الاتفاق السياسي حبرا على ورق، بمساندة ودعم سياسيين من بعض أعضاء السلطتين التنفيذيتين والتشريعيتين في كل من طرابلس وطبرق، سواء أتم ذلك عن قناعة أم تحت تهديد من يملكون السلاح. وهكذا توقف الاتفاق طويلا عند أعتاب المجلس الوطني في طرابلس، وبعدها على أعتاب مجلس النواب في طبرق، الذي يمنعه اللواء خليفة حفتر قائد ميليشيا الشرق التي تحمل راية الجيش الوطني، من الاجتماع للمصادقة على اتفاق الصخيرات على الرغم من مضي سبعة أشهر على التوقيع عليه.
حفتر الذي يصر على المضي قدما في حربه الشخصية “معركة الكرامة” تحت ستار مكافحة الإرهاب، ومتلفعا برداء المشروعية التي يمنحها له لقب وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة الليبية، لا يستطيع إخفاء حقيقة يدركها كل ليبي، ويتعامل على أساسها المجتمع الدولي برمته، وهي أنه ليس هناك حتى اللحظة سوى “نواة” لجيش وطني ليبي موحد تتبع الشرعية الممثلة بالمجلس الرئاسي الذي انبثق عن اتفاق الصخيرات، برئاسة رئيس الوزراء فايز السراج، ومسؤولية وزير الدفاع الليبي العقيد المهدي البرغثي، الذي نجا الخميس من محاولة لاغتياله لا يبدو أنها بعيدة عن أحد أمراء الحرب الذين يسوؤهم خروج الامر من بين أيديهم. ما عدا ذلك، فكلهم ميليشيات مهما كانت اليافطة التي يرفعونها أو المبررات التي يسوقونها من أجل استمرار تمردهم على الشرعية. وسيبقى المجتمع الدولي ممتنعا عن إضفاء المشروعية على عمليات تزويدهم بالعتاد والسلاح، التي يقوم بها المتدخلون الإقليميون والدوليون تحت ذرائع شتى، وبشكل خفي ومعلن، ويمتنع عليهم بالتالي التمتع بتغيير حقيقي وحاسم في موازين القوى إلى الحد الذي يمكنهم من تحقيق نصر نهائي وحاسم، مما سيعني بالضرورة، استمرار الصراعات المسلحة دون حسم بين مختلف الميليشيات الليبية إلى سنوات طويلة مقبلة.
إن استمرار حفتر ونظراؤه من قادة الميليشيا المسلحة في غرب البلاد وجنوبها وشرقها في “اختطاف ليبيا” واتخاذ مواطنيها رهائن، هو عمل لا يمكن تبريره وطنيا، ولا يزيد الوضع في البلاد إلا تأزما وكارثية، بل ويشرع البلاد للتدخلات الأجنبية، ويرهن مستقبل ليبيا لأجيال قادمة، وليس هناك من بديل لهذه الأعمال غير الوطنية أو المشروعية سوى تسليم الامر للقيادة السياسية المشروعة، رغم جميع ما عليها من ملاحظات محقة، من أجل سرعة إنجاز المرحلة الانتقالية التي يقوم الليبيون خلالها بإقرار دستورهم الدائم وانتخاب سلطة تشريعية وتنفيذية موحدتين، بينما يتفرغ العسكريون الذين خلعوا جبة الميليشيا وارتدوا زي الجيش الوطني لتأمين الحدود ودحر الجماعات الإرهابية التي وجدت في حالة الفراغ الأمني الليبية بيئة مثالية للتكاثر.
إن خطيئة اللواء حفتر وغيره من القادة السياسيين والعسكريين الليبيين المعارضين والمعرقلين لمسار التسوية الذي أتى به اتفاق الصخيرات، هي كونهم لم يدركوا الطبيعة الانتقالية له، وتعاملوا بالتالي على أنه وضع دائم بل ومؤبد، الفوز فيه لمن يضمن موقعا ضمن هيئاته الحاكمة، وهو ما أدى في النهاية إلى “شخصنة” الصراع السياسي في ليبيا وتحويله إلى صراع لا يمكن إلا أن ينتهي بقاتل ومقتول، أو منتصر ومهزوم، وهو الأمر المسؤول عن استدامة هذا الصراع الذي استنزف وما زال خيرات البلاد وأرواح أبنائها. فهل يسلم أمراء الحرب مقاليد الأمور للسياسيين، أم يستمرون في الاستقواء بداعميهم الإقليميين، إلى أن تتدخل القوى الدولية القادرة على كسر شوكتهم وتجريدهم من قواهم، وهو أمر إن تم فسيتم بثمن باهض تدفعه ليبيا والليبيين برمتهم من نفط بلادهم وخيراتها إلى سيتم رهنها إلى عقود عديدة مقبلة.